أبو عبيد القاسم بن سلام؛ إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات، وفي علم اللغة في لسان القرآن آية في الحديث ويروي بالأسانيد، وآية في الفقه، وهو صاحب كتاب الأموال -رحمة الله عليه- وغيره من الكتب النافعة، وصاحب كتاب الغريب، فهذا الإمام العظيم وقف بعد صلاة العشاء بعد أن استوقفه رجل قدم عليه من خراسان يسأله عدة مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه، فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر.
لا تستغربوا من ذلك، لا تظنوا أنه ضربٌ من الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم تسمو عن كل شيء، فإذا ذهبت إلى تلك المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الكنز العظيم أحسست بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، وأنت عنه بعيد ولو لم يجد -الرجل منهم- إلا صخرة يكتب عليها لنقش العلم عليها حتى لا يفوت عمن بعده؛ لأن النصيحة لله ولأمة الإسلام، فرضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه همة صادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم، فالغبن كل الغبن أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز، ما نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لا نتعمق فيه ولا نضبطه ولا نجتهد في طلبه.
طالب العلم اليوم يقف عند الحكم فقط، دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، وهل هو صحيح أو غير صحيح، وإذا كان غير صحيح فلماذا ليس بصحيح؟ فتغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، فإذا تعبت وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة، وتجد وتجتهد، فلا تشتك من سهر ليل ولا من ظمأ الهواجر أو من غربة أو من تعب ونصب، وإنما تشعر بأنك أنت الرابح.
لا إله إلا الله! كم من تاجر تجده الآن في الموسم، اذهب الآن إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط، والرجل تجده أمام أولاده يقول لهم: هذا موسمي هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر رجلاً لأنه وضع الشيء في موضعه، وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ مكانك عند الله على قدر العلم، فابحث عن العلم الموروث من الكتاب والسنة، وابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فكن رجلاً يطلب العلم، ويجد ويجتهد، ولا تقف عند الأمور السطحية، وحاول أن تغوص في أعماق العلم، فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:(ذللت طالباً وعززت مطلوباً) فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه:(لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت) لقد وقف يفسر سورة النور آية آية، وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا تكلم في علم القرآن رأيت العجب في استنباطاته وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، ومع كل ذلك العلم ورع وعمل مصحوب مع علمه رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان.