[السبب الثالث: تلاوة القرآن مع التدبر]
وأما السبب الثالث الذي يعين على رقة القلوب: فـ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:١]، كتاب لو نزلت آياته على الجبال لاندكت ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، عرضت أماناته وعباداته ومعاملاته على {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢].
هذا الكتاب الذي سمعته الجن فقالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:١ - ٢].
هذا الكتاب ما إن تصغي أذن إليه وتستحضر مجلساً يذكر به العبد بآياته وعظاته إلا وأثر في الفؤاد، ولذلك أخبر الله عز وجل عن حال من تدبر هذا القرآن وتفكر به، وأنه يجني ثماره الخيرة في دينه ودنياه وآخرته، فقال تقدست أسماؤه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:٨٣] ما استطاع الواحد منهم أن يتمالك دمع عينه؛ بسبب ما وقر في قلبه من كلام الله عز وجل، كتاب الله حبله المتين، الذي ما تمسك به أحد إلا نجا، جعله الله شفاء لما في الصدور، وموعظة من الله عز وجل الجليل الغفور.
هذا الكتاب إذا أردت أن يخشع قلبك ويلين لله عز وجل فأكثر من تلاوته، وإذا تلوت القرآن فاعمل ما يأتي: أولاً: تتلوه وأنت ترجو رحمة الله عز وجل، إذا وضعت القرآن في حجرك فضعه وليس في قلبك إلا الله، ضعه وأنت تحس أن الله يخاطبك، ضعه وأنت تحس بأنها رسالة جاءتك من ملك الملوك، حتى إذا وضعته بذلك القلب المخلص الذي لا يريد إلا رحمة الله، لو أن الخلق أمامك فإنك تتمنى لو قرأت القرآن بينك وبين الله من إخلاصك وعمارة قلبك بالإخلاص.
فأول خصلة لمن يريد أن يخشع قلبه لذكر الله أن يكون مخلصاً في تلاوته.
ضع القرآن وأنت تتفكر وتستشعر عظمة هذه الرسالة وعظمة من أُرسل بها وعظمة من أرسله، حتى إذا جلست بهذا الشعور وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أحسست أنك بحاجة أن يعصمك الله عز وجل من عدوك اللدود، فجاءك من الله التيسير والفتح، فأصبحت في حرز وحصن من الله، تستفتح الآية الأولى وأنت تتدبرها وتتفكر فيها، وتستشعر معانيها، والله إن الآية من كتاب الله، إذا تليت بقلب يستشعر معناها ويحس ما فيها، والله قد تبقى مع الإنسان سنين عديدة، آية واحدة من كتاب الله: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:٩ - ١١].
كل الآخرة يجمعها لك في آية واحدة، وكل الدنيا خيراً وشراً نفعاً وضراً في آية واحدة، فإذا قرأتها وأنت تستشعر عظمة هذا الكتاب وتتفكر في هذه الآية التي تتلوها، فإنه في بعض الأحيان إذا كان الإنسان يستشعر لذة هذا القرآن وحلاوة آياته لا يستطيع أن يجاوز آية واحدة.
والله لو أن القلوب صادقة في تلاوة كتاب الله، لما استطاعت أن تجاوز آية من الوعد والوعيد من كلام الله عز وجل، ولذلك كان بعض السلف يستفتح قيام الليل بآية لا يزال يرددها والبكاء يغلبه.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه استفتح قيام الليل فقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:١] فما استطاع أن يكملها وهو يرددها من البكاء ويغلبه النشيج {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:١] عن أي شيء يتساءلون، فسمت نفسه إلى عالم غير العالم الذي هو فيه {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:٢ - ٥] من يقرأ هذه الآيات؟ كيف يكون أثرها في قلبه؟ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:١ - ١١].
أبان لك عاقبة الجماد والحي؟ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:١ - ٤] هذا هو الشخص المطلوب {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة:٤] الأمة المحشورة والمنشورة، أول قضية هي قضية العبد المسئول.
ثم كأن سائلاً يسأل: عرفنا مصير الخليقة فما مصير هذا الجماد؟ قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:٥] ولذلك ما نظرت عين إلى الجبال فنظرت طولها وارتفاعها في عنان السماء إلا احتقرتها عند عظمة الله عز وجل، حينما تتذكر هذه الآية: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:٥] كالعهن المنفوش أي: كالصوف المنفوخ الذي لا يستقر حاله.
هذه الجبال الراسيات حينما يتذكر الإنسان في هذه الآيات اليسيرة كيف لا يرق قلبه، وكيف لا يخشع فؤاده، والله إن قلباً يقرؤها ولا يجد أثرها إنه من القسوة بمكان، إذا قرأها الإنسان ولم يجد لها أثراً في فؤاده فليبك والله على قلبه وفؤاده.