[توجيهات ونصائح للدعاة]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وبعد: فهذه مجموعة من الأسئلة تقدم لفضيلة الشيخ محمد الشنقيطي، تختص ببعض المسائل التي تهم الدعوة والدعاة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلماته وتوجيهه، وما يعطيه لشباب الدعوة وشباب الصحوة من نصائح، نسأل الله عز وجل أن يعم بها النفع.
السؤال
الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى الترشيد والنقد، وإلى معالجة العيوب وتصحيح المسار، وتشتكي الصحوة الإسلامية اليوم داءً عضالاً، يعاني منه كثيرٌ ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله، فضلاً عن الصالحين وطلبة العلم، وهذا الداء هو: عدم الإحساس بالمسئولية تجاه الدعوة، وعدم تحملها والقيام بأعبائها وواجباتها، فتجد لدى كثير من الدعاة طاقة طيبة، وأعطاهم الله عز وجل من المواهب ما قد حُرم منه الكثيرون، وبالرغم من ذلك تجد مساهمتهم في الدعوة إلى الله عز وجل لا تكاد تذكر مع أنهم يسمعون ويعلمون عن واجبهم تجاه هذه الدعوة، ومع أن الواقع حولهم مهيأ لاستماع كلمتهم ولمشاركتهم الفعالة، وكما أننا ننظر إلى الصحوة الإسلامية اليوم بشكل عام فنجد أن حجم هذه الصحوة وهذه الجموع الغفيرة من شباب الإسلام لا يتناسب أبداً مع الواقع السيئ للأمة والمنكرات المتفشية فيها، فإننا كذلك بنظرتنا إلى الدعاة الأفراد نجد أنهم كذلك ينقصهم القيام بواجبهم، وأن ما يؤدونه على الساحة لا يتناسب أبداً مع ما أعطاهم الله عز وجل من العلم وكثير من القضايا التي يحتاج إليها الدعاة، فما هي توجيهاتكم لشباب الصحوة وللدعاة في هذه القضية؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة عباد الله المؤمنين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالحمد لله الذي جمعنا بكم في هذه الليلة المباركة، وأسأل الله أن يجزي الذين تسببوا في هذا اللقاء كل خير، وأن يجعل ذلك في ميزانهم، ثم أقول: إن هذا السؤال مهم جداً، ويحتاج إلى التفصيل فيه الدعاة بصفة خاصة، ويحتاجه كل من له علاقة بدين الله عز وجل على وجه العموم؛ فالاهتمام بأمور الدين، والدعوة إلى رب العالمين أمر واجب على كل منا، فعلى كل مسلم أن يهتم بهذه الأمانة؛ لأن هذا الدين منوط بكل منا، ولا يمكن لهذه الأمة أن تصلح ولا أن تسعد ولا أن تبلغ درجة الكمال والفضل إلا بما كان عليه سلفها، وبفضل وتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
إذا أردت أن ترى التوفيق على كمال وصلاح أمور هذه الأمة فانظر إلى تلك الساعة التي يقوم فيها كل فرد وكل إنسان بواجبه، فالدين أمانة في عنق كل واحد منا، ورسالة الله عز وجل التي أوحى بها إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل بها كتاباً مبيناً وأرسل بها رسولاً أميناً.
هذه الأمانة العظيمة تنتظر منا أمرين: الأمر الأول: العمل والتطبيق.
الأمر الثاني: الدعوة إلى هذا الطريق.
العمل والتطبيق أمر يختص بك، فكون الإنسان يلتزم ويسير على طاعة الله ومنهج الله، فهذه رحمة من الله تبارك وتعالى، لكن تأتي الثمرة الثانية وهي ثمرة الدعوة إلى طاعة الله والهداية إلى سبيل الله عز وجل، وإذا أراد الإنسان أن يعرف قدره عند الله عز وجل ومكانته عنده، فلينظر إلى قدر الدين في قلبه، فإن وجد أن هذه الرسالة لها مكانة في قلبه ولها مكانة في فؤاده، وأنه يتمعر وجهه لله عز وجل ويحترق من داخله إذا انتهكت حدود الله، وتُعدِّيت محارم الله فليعلم أن قلبه بخير، وأن نور الإيمان لا زال أثره في فؤاده، وأن الله تعالى يجله ويكرمه على قدر إجلال الدين، والله ما من إنسان يعظم هذا الدين ويحرص على تبليغه للأمة والدلالة عليه والهداية بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وجدته موفقاً أينما كان، ومسدداً أينما كان، وملهماً الخير أينما كان.
فالواجب على كل واحد منا أن يعلم هذه القضية الأساسية، وهي: أن قيمتك ومكانتك عند الله على قدر الدين، ولذلك جرب يوماً من الأيام أن تجلس فيه مع أهلك وتذكرهم بالله، وتجلس مع زوجتك فتذكرها بالله، ومع أبنائك فتعلمهم شرع الله عز وجل، ثم انظر إلى هيبة أهلك لك، والله يضع الله لك الهيبة على قدر ما وضعت للدين من هيبة، بل ويزيدك، فمن عامل الله فهو الرابح، وليس بيننا وبين الله إلا هذا الدين؛ تحقيقاً ودعوة إليه ودلالة عليه.
فإذا كان كل واحد منا استشعر أن مكانته عند الله على قدر إجلاله لهذا الدين، فحينئذٍ الفوز الفوز، كل واحد منا يرشح نفسه أن يكون أسعد العباد برحمة الله بتبليغ رسالة الله، وليس المطلوب أن الشخص يجلس مثلاً في المساجد وينصح ويذكر ويفعل ما يفعله العلماء إذا لم يكن عنده حصيلة علمية كاملة تؤهله لذلك، فهذا ليس بالمطلوب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يتحمل هذه الأمانة التي فوق طاقته، إنما المطلوب الشيء الذي بين يديك فتبدأ أولاً بدعوة الأقرب إليك، كأهلك وأبنائك وبناتك وإخوانك؛ لقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤].
المرحلة الثانية: أن تتوسع قليلاً، فتبدأ بدعوة زملائك في العمل، كذلك أيضاً تحرص على جيرانك، وأي خطأ تراه فاعلم علماً مؤكداً أن الله يبتليك بهذا الخطأ الذي رأيته؛ يبتلي إيمانك، يبتليك لكي يعلم وهو علام الغيوب كيف منزلة هذا الدين عندك، الساعة التي ترى فيها المنكر أو ترى فيها أمراً يحتاج إلى نصيحة، يحتاج إلى كلمة طيبة، اعلم أن الله يختبرك فيها، هي ليست محض صدفة كما يقولون، ولم تأت هكذا عبثاً، لا، بل هي ابتلاء واختبار، يقول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:٧]، فالعمل لا يحسن إلا بالصدق مع الله، وأصدق عمل تصدق فيه مع الله عز وجل الدعوة إلى الله عز وجل.
والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تكون لكل إنسان بحسبه، ممكن أن تدعو وأنت في وظيفتك، ممكن أن تدعو وأنت في بيتك، ممكن أن تدعو وأنت في مجلس مع إخوانك وزملائك، وليس المراد أن تجلس أربعاً وعشرين ساعة في الدعوة، لا، المراد أن تعطي هذا الدين ما تستطيع، فالله لا يريد منك أن تتحمل ما لا طاقة لك عليه، وأوصيك أن تقرن مع الدعوة الجد والصدق، واعلم أن الأجر والثواب على قدر إخلاصك.
نركز هنا على عدة قضايا: القضية الأولى: إجلال هذا الدين.
والله لا تُجل هذا الدين إلا كان على قدر ذلك الإجلال يجلك الناس، ولذلك انظر إلى هيبة العلماء عند الناس، ومحبة الناس للعلماء، لماذا؟ هل لأحسابهم؟ لا والله، لأنسابهم؟ لا والله، لألوانهم؟ لا والله، لمالهم؟ لا والله، لجاههم؟ لا والله، وإنما لشيء واحد وهو الدين، فقد صغت قلوبهم لله، وأذعنت لله وغارت له؛ لأنهم أعرف الناس بالله، فلما عظموا الله، جعل الله لهم القبول في العباد، هذه حقيقة مدركة بالدليل النقلي والدليل الحسي المشاهد، لا تُجل ولا تكرم إلا بقدر إجلالك للدين.
فإذاً إذا ثبتت هذه القضية الأولى والركيزة الأولى، وهي: أن مكانتك عند الله على قدر إجلالك للدين، فما عليك إلا أن تؤهل نفسك للدرجات، فتحاول أن تجند نفسك على قدر ما عندك، فإذا رأيت شخصاً تائهاً، فهل من الصعب أن تجلس معه خمس دقائق، وتكلمه كلمتين ربما أنت ما تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضا لا سخط بعده؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، هل من الصعب عليك إذا رأيت شاباً حائراً تاركاً للصلاة أن تستوقفه خمس دقائق، فتجلس معه تقول له: هذا الطعام الذي تطعمه لمن؟ والشراب الذي تشربه لمن؟ هذه الروح التي تسري في جسدك فيتحرك بها كل شيءٍ بإذن الله لمن؟ وتقول له: أما تستحي من الله، وأنت ترفل في نعمه ولا تجيب داعي الله في بيت من بيوت الله؟ ثم كلمة بعد كلمة علَّ الله أن يهديه، فوالله ما ركع ركعة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا سجد سجدة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا دمعت عينه من خشية الله إلا كان لك مثل أجره، نعمة وفوز وفضل من الله عز وجل.
القضية الثانية: إذا ثبت أنه ينبغي للإنسان أن يجلَّ دين الله وشرعه، فمن إجلالك لدين الله وشرعه: أن نحب لكل إنسان ما نحب لأنفسنا، وأن نسعى أن يكون هذا الدين وهذه الرسالة عند كل أحد، وأن يظفر بها كل أحد، كل ذلك طمعاً في رحمة الله، والتماساً لرضوان الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك بأسلوب التشويق، فقال صلوات الله وسلامه عليه حينما بعث علياً رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذا يدل على أنه ينبغي بعد إجلال الدين: الانطلاقة للدعوة إليه، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:٢٩]، لاحظوا يا إخوان مجلس واحد فقط، سمعوا آيات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلاها ذلك اللسان الصادق (فلمّا حضروه قالوا: أنصتوا)، هذه مرحلة الإجلال للدين، حتى في مجلس العلم، قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:٢٩]، (ولوا): انظر حتى أسلوب القرآن، يقال: ولَّى هارباً، يعني: فزع مباشرة، هذا دليل كمال التأثر بالقرآن، فكل من أجلَّ دين الله لا ينتظر، بل مباشرة ينطلق داعية إلى الله، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:٢٩ - ٣٠]، إذا كان الإنسان تعلق بهذا الدين وعظم هذا الدين ما يتحمّل، ويتمنى هداية الأمة كلها فليس