[تتبع القرآن والسنة لأمور الجاهلية وذمهما لها]
القرآن والسنة يتتبعان أمور الجاهلية، ويشنعان على الجاهلية وأمورها وفاعليها، ويذمان ويقبحان الجاهلية وأمورها وفاعليها، ويحذران من ذلك، فتجد القرآن الكريم في سورة آل عمران في الآية الرابعة والخمسين بعد المائة، يذم من يظن بالله غير الحق ويسميه ظن الجاهلية، كما أخبر عمن ظن بالله كذلك في غزوة أحد، فقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً منْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:١٥٤].
وتتبع القرآن أمراً من أمور الجاهلية في سورة الأحزاب في الآية الثالثة والثلاثين، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:٣٣] وتتبع أمراً آخر من أمور الجاهلية وهو الظهار، وإن لم يصفه في سورة المجادلة بإنه من أمور الجاهلية، لكن أخبر العلماء أن هذا الأمر كان معروفاً في الجاهلية، ولكن شنع القرآن عليه، وذمه وقبحه في سورة المجادلة فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:٢] في الآية الثانية من سورة المجادلة.
وذكر حمية الجاهلية في سورة الفتح في الآية السادسة والعشرين، وأنه لا يجعلها في قلبه إلا الذين كفروا، أما المؤمنون فجهادهم في سبيل الله عز وجل، لتكون كلمة الله هي العليا، فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح:٢٦].
وتتبعت السنة أمور الجاهلية، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وحذر من ازدراء الناس واحتقارهم وانتقاصهم، حتى قال لـ أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه السابق إلى الإسلام من السابقين، قال له يوماً لما عير رجلاً بأمه: [يا ابن السوداء!] قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه القدم الثابتة الراسخة في الإيمان، وما أمضاه من سنين في البلاء الحسن، قال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية).
وعلى هذا فكم من رجل وامرأة منا حريون بأن يقال لهم: إنكم أناس فيكم جاهلية؛ لأننا قد بعدنا أشد البعد وأعظمه من عرض أدوية القرآن على أدواء قلوبنا ولسنا كـ أبي ذر، ومع ذلك فلتت من أبي ذر هذه الفلتة التي عوض عنها وداواها بأن وضع خده على الأرض، وأمر من قال له: [يا ابن السوداء!] ويقال: إنه بلال، ويقال: غيره، وأمر هذا الشخص الذي عيره بأن يطأ خده بقدمه، لكي يتخلص تماماً من أمر من أمور الجاهلية أخبره المربي الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما يزال فيه.
أمور الجاهلية الكثيرة التي فينا لا خلاص لنا منها إلا بأن نقرأ القرآن الكريم قراءة فهم وتدبر ووعي، ولأن يفهم الواحد منا في هذا الزمان سورة من سور القرآن الكريم فهماً صحيحاً سليماً بكل ما فيها من حلال وحرام، وما ينبغي أن يوقف عنده لعل هذا يكون أبرك وأعظم أثراً على النفس وعلى الأفراد والمجتمع، من أن يقول المرء: أنا من حفاظ القرآن الكريم، ثم تراه بعد ذلك يتصرف تصرفات يقال له فيها كما قال الشيخ عبد الرحمن العشماوي جزاه الله خيراً: إيه يا حافظ القرآن أجبني أو هذا بالحافظين يليق نعم، لا نريد أن يقال للحفاظ هذه الكلمة، ولو بين الإنسان وبين نفسه، لا نريد أن يقول أحدٌ بينه وبين نفسه: إيه يا حافظ الكتاب أجبني أو هذا بالحافظين يليق إذاًَ فلو تدبر الواحد منا سورة واحدة تدبراً كاملاً، وعرف ما أريد فيها من خطاب الله عز وجل، وما أريد بالآيات أبرك وأعظم أثراً من أن يجمع سورة إلى سورة، وهو من التأدب بأدب القرآن بعيد، ومن عرض أدوية القرآن على أدوائه بعيد، هو في شق والقرآن في شق.
وكذلك أقول في حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من اعتنى بها قولاً وفعلاً وتقريراً، وبتدبر وفهم وإخلاص وإيمان تخلص من هذه الجاهلية التي اشتد أمرها فينا، واشتد أثرها علينا.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعمل بهذه الكلمة التي فيها من القصور ما فيها، لكن يكفيني ويكفيكم أن نستفيد زبدتها، وأن نذكر خلاصتها، وهو ما ينبغي من تغير حالنا مع القرآن والسنة من مجرد حفظ وتمتمة وترداد وتلاوة، إلى حرص شديد أكيد على الفهم والتدبر، وهذا يتطلب منا ويقتضي أن نلم بالأدوات التي تعيننا على ذلك، ولهذا ليس لأجل وجود أخينا الفاضل الشيخ محمد حفظه الله، بل هذا أمر كان في غيابه كنا نتذاكر أحوال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وما كان له من التمكن، والشيخ محمد المختار رحمة الله عليه في القرآن الكريم، فقال أحد الذين درسوا عليهما في المدينة: إن هذا كان بسبب التمكن من اللغة، وأوجه القراءات، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصول، فهذه الأدوات يجب على كل طالب علم يريد أن ينفع نفسه ومجتمعه أن يأخذ منها بطرف بحسب الطاقة.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجمعنا وإياكم بالسابقين من المخلصين الصالحين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.