أما السبب الثاني الذي هو من الأسباب التي تعين على خشوع القلوب وذلتها لله تبارك وتعالى: أن يتذكر الإنسان منازلاً لا بد من نزولها، ومواطن لا بد من حلولها، أن يصير الإنسان من هذه الدنيا إلى دار قريبة ومنازل عجيبة، يعيش أشجانها وأحزانها، وبين أهلها في أتراحها وأفراحها، أن يزور المقابر وأن ينظر إلى أهل تلك المقابر بعين متفكرة متأملة، في تلك القبور المتدانية، والمنازل المتقاربة، والتي بينها من النعيم والجحيم ما لا يعلمه إلا الله.
كم من قبور تقاربت بينها وبين الرحمة والعذاب ما لا يعلمه إلا الله، قبور في أعالي النعيم، وقبور في دركاتٍ من الجحيم ينادون ولا مناد، ويستغيثون ولا مغيث، ويستجيرون ولا مجير، فينظر في أحوالهم ويتذكر كيف لو صار إليهم، وزف بين العباد إلى منازلهم، كم من قبور في الظلمات، وفي الكهوف ملئت أنواراً ورحمات، وكم من قبور حولها الناس يضحكون ويلعبون، ويسرحون ويمرحون، فيها العويل والصراخ، وفيها الفزع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ما نظر المؤمن إلى هذه المنازل ولا تفكر في هذه المواطن إلا جاءه قلبه خاضعاً وفؤاده من خشية الله ذليلاً خاضعاً والعين من خشية الله دامعاً.
أحبتي في الله: ما دخل ذكر الآخرة إلى قلب إلا لان لله عز وجل، فالمؤمن الصادق لزيارة المقابر حظ عنده، يزورها ما استطاع زيارتها، ويقف عندها وكأنه من أهلها، ينظر إلى الإخوان والأخوات، ينظر إلى الأحباب، والأصحاب والخلان، والآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد، وينظر إلى ما هم فيه، ويتفكر كيف هم فيه، عله أن يكسر الله عز وجل قلبه من خشيته، فوالله ما استقر ذكر الآخرة في قلبٍ إلا أناب إلى الله، وما الذي أقض مضاجع الصالحين فكانوا {قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:١٧ - ١٨] غير ذكر الآخرة، تذكروا منازلها، وعاشوا بين أهلها، فكان حظهم من الليل قليلاً، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}[السجدة:١٦] تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ لعلمها أنها ستضطجع في تلك المضاجع.
لذلك أحبتي في الله: فإن كان القلب قد وجد الرقة في هذا المشهد وتذكر هذه المنازل وعاش بين أهلها في السرور وفي الشرور، عندها يجد الإنسان رحمة الله بلين قلبه، فإن أصر القلب على العناد واستمر في القسوة عن ذكر رب العباد فخذه إلى منزلة من هذه المنازل، وذكره بصيحة تفزع فيها تلك القبور، وتبتدأ عندها معالم الهول والنشور، ذكره بتراب ينفض عن الأجساد، وبخروجهم من بين تلك الأحجار والأشجار والأعواد فرادى إلى الله، مرتهنين بالأقوال والأعمال، عله أن يرق من خشية الله ويخضع وينيب إلى الله، فإن أبى وأصر! فذكره بمقام طويل وشمس تدنو على الرءوس، ويذكر الجسد بحر شمس الدنيا علَّه أن يحس ببعض لهيبها، لعله أن يتذكر طول القيام بين يدي الملك العلام، فعندها يأبى ذلك القلب إلا خضوعاً وذلةً لله عز وجل، فإن أبى فذكره بالصراط وزلته، والحساب وشدته، والسؤال ومؤنته، وذكره بذنوب خلت في أزمنة مضت، لا يدري المؤمن هل كفي حسابها، وهل ستر عقابها.
ذكره بالخطايا والذنوب والرزايا، عله أن يعي مكانه عند الله، ويعلم أن المقام بين يدي الله شديد عليه، فيذل لله عز وجل وينطرح بين يديه، ذكره هذه المشاهد، وأقم له هذه المواقف، عله أن ينكسر من خشية الله، ووالله ما استقر خوف الآخرة في قلب عبدٍ إلا أناب إلى الله عز وجل.
وما أخبار السلف وأخبار من مضى من الصالحين هذه الأخبار العجيبة ما كانت ولن تكون بشيء أعظم من توفيق الله عز وجل ثم ذكر الآخرة.