للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نصيحة للعاق لوالديه]

السؤال

أنا طالب علمٍ ولكن بيني وبين والديَّ مشاكل، فتركتهم حتى إن أبي جاءني وبكى عندي فتركته، فما توجيهكم لي، وما الذي يكون عليَّ في هذه الحالة؟

الجواب

باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد أخي في الله! اتق الله في أبيك، اتق الله قبل أن تحل بك نقمة من الله، فإن العقوق مفتاح للشر وسببٌ في سلب الخير والبر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أنه لا يدخل الجنة عاق) أيأتيك أبوك الذي تربيت بنعمته بعد نعمة الله؟ أيأتيك أبوك الذي وصاك الله عليه من فوق سبع سماوات أن تخفض له جناح الذل من الرحمة، وأن تقول: رب ارحمه كما رباني صغيراً؟ أيأتيك أبوك ويقف عليك، والواجب أن تأتيه وأن تذل عنده، وأن تخفض له جناح الذل، تشتري بذلك رحمة الله.

أخي في الله: تدارك نفسك ومن هذه الساعة تتوب إلى الله، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، وأحذرك من نقمة الله العاجلة، وعقوبته الآجلة أن تنزل بك، وعاهد الله من ساعتك هذه أن ترجع إليه، وأن تدخل السرور إليه، وأن تضحكه كما أبكيته، وأن تسره كما أحزنته، وأن تكرمه كما أهنته.

اتقِ الله في والدك، وأحسن إليه كما أمرك الله، والله تعالى يبدل الإساءة بالإحسان لمن وقف في بابه يرجو الصفح والغفران.

وأوصيك أخي في الله: أن تبادر بعد انتهاء الصلاة إلى والدك، وأن تجلس عند قدمه باكياً ذليلاً خاضعاً {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤] (قال: يا رسول الله! أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت والديَّ يبكيان قال: أترجو الجنة؟ قال: نعم.

قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما) وفي الحديث الآخر: (قال: يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد قال: أحية أمك؟ قال: نعم.

قال: الزم رجلها فإن الجنة ثم).

فارجع إلى أبيك وتب إلى باريك وقل: يا رب! التوبة مما بدر مني وكان، وارجع إلى والدك فإن الله عز وجل يتوب على من تاب، وكم من عاق كسر الله قلبه بالقرآن ومواعظ أهل الإيمان، فرجع إلى والديه فعادت عليه الرحمة من الكريم الرحمان، فالله كريم جواد، فتب إلى الله وارجع إليه، وصدِّق هذه التوبة بالإحسان إلى والدك وإلى والدتك.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقك لذلك.

أخي في الله: فإن أردت أن تكون من العلماء فاعلم أنك لن تكون عالماً هادياً مهدياً إلى إذا هُدِيت في نفسك، ولن تكون هادياً مهدياً إلا إذا بدأت بأعظم حقٍ عليك وهو حق الله في توحيده والقيام بحقوقه وحدوده ورعاية محارمه سبحانه، ثم بِرُّك لوالديك، واعلم أنه لا علم بدون بر، وكم فتح الله لعلماء من الماضين -ممن عرفناهم من مشايخنا- من أبواب السعادة والخير والبركة في علمهم بفضله تعالى، ثم بدعاء الوالدين.

وقد ذكر بعض العلماء حين كتب ترجمته بيده فقال: ما عرفت خيراً بعد الإيمان بالله أوصلني إلى هذا بعد توفيق الله مثل بري لأبي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل، فبلغني الله فوق ما يرجو، وهو من العلماء الأفذاذ، وهذا لاشك أنه فضل.

وأذكر رجلاً كان في ضعف وضيق، وفي شدة حال وبؤس، كان يذهب ويسعى لوالديه، فإذا جاء بالأجرة في يومه جاء ووضعها على الطاولة، ويستحي أن يمد يده لأبيه، فلما سألته وقلت: ولماذا؟ قال: أستحي أن أرفع يدي على يد أبي فتكون منة على والدي، قال: فكنت إذا وضعت له المال -يحكي لي ذلك وهو عالم من العلماء- بين يديه يدعو الله ويقول: اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله، فبلغ أكثر من عشرين عاماً وهو تائه في الأعمال، حتى شاء الله في يومٍ من الأيام وهو عائد من عمله، إذا به يلتقي بعالمٍ كان عمدةً في بلده في الفتوى، فقال: يا بني! ما هذا الذي أنت فيه؟ قال له: ما ترى إني أسعى للرزق، قال: هل لك أن تجعل لي يوماً من أسبوعك؟ قال: نعم، ونعمت عيني بذلك، فما زال يتردد على ذلك العالم، حتى جاء اليوم الذي يناقش فيه رسالته في الدكتوراه في تفسير القرآن العظيم، فلما دعي إلى المناقشة وجلس إذا بشيخه وأستاذه يقوم مهابةً له وإجلالاً لما كان فيه من العلم، وقال: تفضل يا شيخ فلان.

ومن المعلوم أن الشيخ لا يتنزل لطالبه في الغالب، وإذا به أمام الجمع قال: هالني ما رأيت فيه من العلم والمعرفة بكتاب الله فعظمته وأجللته، فلما قال له: تفضل يا شيخ فلان جلس يبكي، فقال: تبكي ونحن نريد أن نجلك؟ قال: ذكرت دعوة أبي رحمه الله: اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله، فبلغه الله تفسير كتابه وبلغه الله هذه المنزلة العظيمة.

بر الوالدين من فواتح الرحمة.

فهذا من أعظم الأسباب ونحن في غفلةٍ عظيمة عنه، ولو لم نخرج من هذه المحاضرة إلا ونحن نعيد النظر في سلوكنا مع آبائنا وأمهاتنا، مع أمرٍ قرنه الله بتوحيده، وليس البر السكوت وأن تجلس مع الوالد والوالدة، إنما البر الذلة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤] ولا تنتظر من الوالد أو الوالدة أن يسألك حاجته، بل أنت الذي تمضي إليها وتقضيها وتدخل السرور عليه، ولا تعلم بشيءٍ يفرحه إلا كنت أسبق الناس إليه.

أسأل الله العظيم أن يفتح لنا ولكم أبواب رحمته، والله تعالى أعلم.