للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة]

أما الثمرات الأخيرة التي يراها الإنسان على أتم ما تكون عليه ثمرة الصلاح والفلاح، وعلى أكمل ما يكون عليه الربح والنجاح إذا ضم العبد قبره وأوسد لحده فإنه يجد أثر هذه الطاعات على أتم الوجوه وأكملها، فإن الله جل وعلا أخبر أن أهل الاستقامة ينعم عليهم إذا صاروا في آخر لحظاتهم من الدنيا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:٣٠] جمعوا بين الأمرين: القول والعمل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:٣٠] استقاموا بالعمل الصالح استقاموا باغتنام الحياة في طاعة الله ومرضاة الله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:٣٠] عزت عند الله مكانتهم فأنزل إليهم الملائكة في سكرات الموت، تنزل عليهم الملائكة إذا صاروا في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، في تلك اللحظة التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر، في تلك اللحظة العصيبة ينظر الإنسان نظرتين لا ينظر غيرهما: أما النظرة الأولى: فهي أمامه، وأما النظرة الثانية: فهي وراءه، فإذا نظر أمامه أصابه الخوف، وإذا نظر وراءه أصابه الحزن، أما النظرة التي إلى ورائه فإلى أبنائه وبناته إلى الذرية الضعيفة التي يتركها من ورائه، إلى أزواجه، إلى عشيرته، إلى قرابته، ينظر إليهم بقلب متقطع مليء بالحزن.

أما النظرة التي أمامه فهي نظرة لهذه الدار غير الدار التي يعرفها، وإلى هذا المنزل الذي ما نزله من قبل، وإلى هذه الرحلة التي لا رجعة بعدها، وإلى هذا السفر الذي لا إياب بعده، فيصيبه الخوف لا يدري هل هو قادم على رحمة أو قادم على عذاب! أقادم على جنان وروح وريحان، أم قادم على جحيم ونيران وسخط من الديان! لا يدري، فينزل الله جل وعلا عليه الملائكة لكي تقول هذه الجملة: {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:٣٠] أي: لا تخافوا من هذه الدار التي أنتم قادمون عليها {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:٣٠] أي: على فراق الذرية.

ولذلك ورد في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاًً} [الكهف:٨٢] كان أبوهما عبداً اغتنم الحياة في طاعة الله ومرضاة الله، يقول بعض العلماء: كان أبوهما صالحاً: الجد السابع لهذين اليتيمين، ذكر الله العبد الصالح في الذرية في الطبقة السابعة من الأبناء، ذكر الله عز وجل هذه الذرية بفضل الله أولاً، ثم بما كان من صلاح الجد، {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:٣٠] أي: على هذه الدار التي أنتم قادمون عليها {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:٣٠] على فراق الأهل والذرية؛ ولذلك إذا رأى المؤمن ما عند الله من الحبوة والكرامة والرضا في أول لحظة من لحظات الآخرة، وفي أول ضجعة له في القبر، إذا رأى نعيم الآخرة وبشائر الرحمة لو خير بين أن يبقى ويرجع إلى أهله لاختار البقاء على الرجوع إلى الأهل.

كثير من الناس يخافون الموت، كثير من الناس يجزعون من الموت، ولكن إذا كشف للعبد المؤمن ما عند الله من الرحمات وثواب اغتنام الحياة في الطاعات كان شوقه إلى ذلك أعظم من شوقه إلى أهله وأولاده؛ ولذلك ما أعظم الغنيمة! وما أعظم الربح! وما أعظم الفوز حينما يُضجع الإنسان في قبره قرير العين بطاعة الله! وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الملكين إذا سألا العبد الأسئلة الثلاثة عن ربه ودينه ونبيه صلوات الله وسلامه عليه قالا له: نم صالحاً -لأن الله أصلحه في الدنيا وهذه عواقب الصلاح في قبره- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فيفتح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة) مما يحس من عظيم كرامة الله التي تنتظره.

وجاء في الحديث الآخر عند أحمد رحمه الله في المسند (أنه إذا قالا له: نم صالحاً.

جاءه رجل على أحسن ما يكون وأجمل ما يكون من صورة فيقول ذلك الميت الصالح: من أنت؟ فوجهك وجه خير ولا يأت إلا بخير؟ فيقول له: أنا عملك) أنا قيام الليل، وصيام النهار، ولذلك المؤمن الصالح إذا قام في ركعة نافلة واستثقلها وأحس بطولها وجاءته السآمة والملالة في طاعة الله فليتذكر يوم تكون هذه الطاعة أنساً له في القبر، ليتذكر يوم تكون له هذه الركعة والسجدة نوراً له في القبر، ليتذكر يوم تكون هذه الركعة والسجدة نوراً له على الصراط، هذه غنائم وهذه عواقب اغتنام الحياة في طاعة الله ومرضاة الله.