[نصيحة إلى من فاتها قطار السعادة (الزواج)]
السؤال
أنا بنت بلغتُ من العمر ما يقارب الأربعين عاماً، وكنت أظن السعادة في الحصول على شهادة عليا، وكان يتقدم إليَّ كثير من الشباب للزواج وكنت أرفضهم ظناً مني أن السعادة في تحصيل الشهادة التي أجمع بها المال ويكون لي منصب ومركز في المجتمع، وأنا الآن لا أشعر بالسعادة بل فاتني قطار السعادة، علماً بأن في بيتنا خمس بنات، الكبرى منهن عمرها خمسون سنة، والصغرى خمس وعشرون سنة، ولم تتزوج منا واحدة، ظناً من الشباب أن البنت إذا كان عمرها أكثر من عمر الشاب فإنه يعزف عن الزواج منها.
أرجو من فضيلتكم أن تبين لي ولأخواتي لكي لا يخطئن مثل خطئي أين تكون السعادة؟ هل هي في الشهادة أم في غيرها؟ كذلك أرجو نصيحة لإخواني الشباب الذين يعزفون عن الزواج بأخواتهم في الله تعالى إذا كبرن عن السن المختار؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن السعادة كل السعادة ليست في جمع الأموال، ولا إصلاح الأحوال، ولكنها في حب الله الكبير المتعال، يوم يحب الله عبده فيشرح صدره وييسر أمره، ويجعله عبداً تقياً من معصية الله خلياً نقياً، يوم يفتح الله عز وجل له أبواب الطاعات حتى يصير من السعداء، فالسعادة كل السعادة في تقوى الله جل وعلا.
ولست أرَ السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد السعادة في تقوى الله؛ لأن الله جمع فيها خيري الدنيا والآخرة، فخير الدنيا في أمرين: إما أن يدفع عنك ضرراً أو يجلب لك نفعاً، فقال الله في التقوى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:٢] وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:٤] فجمع له الدنيا في هاتين الآيتين.
وأما الآخرة فإن الله جل وعلا جعلها للمتقين: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:٣١ - ٣٣] فالسعادة في تقوى الله جل وعلا، يوم تمسي المرأة المؤمنة وتصبح وليس في قلبها إلا الله جل جلاله، يوم تعمل للدار الآخرة فتلك هي السعادة الحقيقية، حتى تجد آثار الصالحات في دنياها وأخراها، والله ما اتقى عبد ربه إلا أقر عينه في الدنيا قبل الآخرة، ولا أطاع عبدٌ مولاه على أكمل ما تكون عليه الطاعة إلا أسعده في الدنيا قبل الآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧] أي: والله لنحيينه حياةً طيبة، السعادة كلها في حب الله، والسعي الحثيث لمرضاة الله جل جلاله.
أما القضية الثانية: فإن الابتلاء الذي بليت به جاء من سوء النية {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:١١] أنعم الله على المرأة بحسن الحال، وكانت في شبابها وعز حالها، والناس يطلبونها لكرامتها عليهم، فلما كفرت نعمة الله ونظرت إلى ما ورائها من طلب الشهادات وعلو الدرجات من هذه الدنيا الفانية، بليت بهذه العاقبة الوخيمة نسأل الله السلامة العافية، فهذه من عاجل العقوبة أنك طلبت العلم للدنيا ومن طلب العلم للدنيا مكر الله به في الدنيا قبل الآخرة، هذا معلوم ونص عليه العلماء: أن من طلب العلم للدنيا لشهادة لعلو درجة لطلب جاه، فإن الله يمكر به في الدنيا قبل الآخرة نسأل الله السلامة والعافية.
فأوصيك أولاً: بالاستغفار من هذه النية، فالزواج يهون ولكن الخطب كل الخطب (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) نسأل الله السلامة والعافية، هذه هي المصيبة العظيمة مصيبة الدين.
أما الوصية الثانية التي أوصيكِ بها: فمن الليلة استغفري ربك وتوبي إليه، فإن الله يصلح حالك، فإن الله يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:٤٦] فإنكِ إن استغفرتِ الله واستدمتِ الاستغفار وسؤال الله الرحمة فليرحمنك الله في الدنيا قبل الآخرة، أكثري من الاستغفار علّ الله أن يغفر لك الذنب الذي بليت به حتى حيل بينك وبين هذا الخير الكثير، وما يدريك لو تزوجت فأخرج الله منك ذرية صالحة تعبد الله آناء الليل وأطراف النهار، فاغتنمي أختي المسلمة هذه الفرصة وهي كثرة الاستغفار، فإنها من أسباب الرحمة من الله جل وعلا.
الوصية الثالثة: يجب أن تكون مثل هذه المواقف عبر للمؤمنين والمؤمنات، عبرة للمرأة المؤمنة ألا تتأخر بعذر الدراسة أو بإكمال الدراسة، فإن المرأة المؤمنة جعلها الله جل وعلا حرثاً للمؤمنين، لكي تبني الأسرة المسلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى النكاح والتناسل والتكاثر، فقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث النكاح: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة).
الوصية الرابعة: لا تيأسي من رحمة الله، فأكثري من الدعاء أن يسخر الله لك زوجاً صالحاً، وأحسني الظن بالله، فإن الله على كل شيء قدير.
الوصية الخامسة: أوصي الشباب الأخيار الذين يلتمسون رحمة الله ورضوان الله أن يفرجوا هموم أمثال هؤلاء من النساء، إن في النساء صالحات قانتات، إن في النساء خيرات دينات ولكن بُلين بكبر السن، فإما بسبب ولي أو بسبب منها، فتجد وليها لا يرغب كل زوج ويماطل في زواجها، وإما أن يكون السبب منها كحال هذه السائلة.
فأوصيكم إخواني في الله أن تفرجوا هموم أمثال هؤلاء، فإنه من احتسب الأجر في أمثال هؤلاء فلعل الله أن يخرج منهن ذرية صالحة، فإن العبد إذا احتسب الأجر عند الله فإن الله يجزيه على حسن نيته، فاحتسب الأجر عند الله، فليس السن هو المهم، ولكن المهم كل المهم الصلاح والديانة والاستقامة وشراء مرضاة الله جل وعلا بتفريج كرب مثل هذه، فإن المؤمنة إذا لم تجد من يحصنها قد تتعرض للحرام والنفس ضعيفة والشهوات كثيرة، فاحتسب الأجر عند الله.
عبد الله: إذا علمت بامرأة صالحة أنها لا تجد من يخطبها لكبر سن فاحتسب، فلعلك أن تخرج من الدنيا ولك صحيفة عمل أنك تزوجت لا لجمال ولا لمال ولكن لوجه الله الكبير المتعال، أن تخرج من الدنيا بحسنة من حسنات مؤمنة تفرج عنها كربها، وهذا أمر يتساهل فيه الكثير، فالبعض يبحث عن الشابات والجمال، هذه كلها متع زائلة وفانية، ولعلك أن ترزق بامرأة كبيرة عاقلة يكون من ورائها خير كثير، فإن الله ثبت قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بـ خديجة وهي أكبر منه سناً رضي الله عنها وأرضاها، جاءها ذعراً مرعوباً مرهوباً فقالت له: [كلا والله ولا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق] فثبّت الله قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المرأة الصالحة، لما كانت كبيرة السن عاقلة، فالمرأة الكبيرة لها عقل، ولعل الإنسان أن يأجره الله على نيته فيكون منها ذرية صالحة، فاحتسبوا الثواب في أمثال هؤلاء، وكذلك احتسبوا الثواب في المطلقات والأرامل.
إن الإنسان إذا علم أن هناك مطلقة أو أن هناك امرأة صالحة أرملة ابتلاها الله بزوج سيئ فطلقها وأهانها، وتستطيع أن تتزوجها، فاحتسب عند الله، فهذه هموم وغموم من نوى فيها الخير آجره الله جل جلاله، فاحتسبوا أيها الأحبة في الله الزواج يكون للدنيا والآخرة، فما كانت للدنيا فلذة ساعة وألم دهر، ولكن ما كان للآخرة فلذة الدنيا والآخرة، وسعادة الدنيا والآخرة، والتجارة الرابحة، نسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد.
والكلمة الأخيرة التي أحب أن أوجهها، فأوجهها لكل ولي امرأة بأن يتقي الله جل جلاله فيها، اتقوا الله في النساء فإن الله حملكم أمانتهن، ليتق الله الوالد، وليتق الله الأخ، وليتق الله كل ولي امرأة، ولا يبق متمسكاً بأمور قد لا ترضي الله جل وعلا من العصبيات ونحوها، فإنها قد تحول دون زواج المؤمنين والمؤمنات.
بعض النعرات التي لا ترضي الله وهي من أمور الجاهلية كالفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فالكل من التراب وإلى التراب.
فإن المرأة إذا حبسها وليها بدون حق وماطل في زواجها حتى عنست وربما تعرضت للزنا لاشك أنه يحمل ذنبها بين يدي الله جل جلاله، والله إن هموم الليل والنهار التي تعيشها كثير من النساء المظلومات من أوليائهن يحملها الأولياء على ظهورهم، فاتقوا الله يا عباد الله! إنها مسئولية عظيمة، وكل إنسان يعلم أن أخته قد تأخر زواجها أو أن ابنته قد تأخر زواجها فعليه أن يتقي الله فيها، وكم من هموم وغموم يسلطها الله على أمثال هؤلاء لأنهم لم يتقوا الله في النساء، فاتقوا الله إخواني في هذه الأمانة العظيمة، والمسئولية الجليلة الكريمة، وليخرج الأب بهذه الأمانة بما يرضي الله جل جلاله، نسأل الله العظيم أن يوفقنا للسداد، وأن يكرمنا بحسن العاقبة في المعاد، والله تعالى أعلم.