[الوصية الثانية: الإتيان بالحسنة بعد السيئة]
أما الوصية الثانية: فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل ولكنها وصية للمؤمنين والمؤمنات، وصية للصالحين والصالحات، ووصية للعاصين والعاصيات، هذه الوصية ما أحوج المؤمن أن يتأملها وأن يتدبرها وأن ينظر فيها، فما أحكمه وما أعلمه صلوات ربي وسلامه عليه يوم جعل هذه الوصية تلو الوصية بتقوى الله! هذه الوصية الثانية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) السيئة: سماها الله وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم؛ لأنها تسوء صاحبها في الدنيا والبرزخ والآخرة.
السيئة تسيء إلى صاحبها في الحياة وفي الممات، فلا تزال السيئة مكتوبة في ديوان العبد حتى يمحصه الله منها، إما ببلية في الدنيا أو بتوبة صادقة إلى الله قبل الموت، أو ببلية يصيبه بها أو بعذاب يبتليه به في قبره، أو بعذاب يبتليه به في حشره ونشره، السيئة بلاء وشقاء وعناء، من سلم منها فقد سلم، ومن بلي بها فقد حرم، إلا أن يرحمه الله برحمته.
أعظم السيئات كفر بالله جل جلاله، وردة عن الإسلام وإعراض عن الله بالكلية: بالاستهزاء بالدين، أو الاستخفاف بالصالحين، أو التهكم بشعائر رب العالمين.
أعظم السيئات: إطلاق اللسان في الفواحش والمنكرات، وإطلاق الجوارح في الفواحش والمنكرات، واستباحة حدود الله، وانتهاك محارم الله بسفك الدماء، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك -والعياذ بالله- من معاصٍ وفجور، كلها شقاء وبلاء وعناء ينطمس بها نور الإيمان على قدرها عند الله العظيم الرحمن.
ما زالت السيئة بصاحبها حتى أظلم وجهه وقلبه وتنكد عيشه، ولربما حجبت الرزق عنه والعياذ بالله.
قال الفضيل رحمه الله: إذا رأيت الناس سبوك أو شتموك أو أهانوك؛ فاعلم أن لك ذنباً بينك وبين الله، وإذا رأيت الناس احتقروك أو ذموك أو عابوك فاعلم أنها السيئات جنت عليك في الحياة قبل الممات.
فتب إلى الله قبل أن ينتقم الله منك.
السيئة تسوء صاحبها في دينه فتطمس نور الإيمان من قلبه، قالوا: إنه ما من عاص يعصي الله إلا حرم من العلم على قدر معصيته، وقد يكون من الحفاظ فيسلبه الله نعمة الحفظ، وقد يكون من الخاشعين فيسلب نعمة الخشوع، وقد يكون من القائمين والذاكرين والمخبتين والمنيبين والصائمين فترفع هذه الحسنات بسبب ذنب بينه وبين الله جل جلاله.
السيئة تسوء صاحبها حتى إذا حرم هذا الخير بكى حين لا ينفع البكاء والندم إلا أن يشاء الله جل جلاله.
فلما علم صلى الله عليه وسلم -بل علم ربه الذي أرسله وبعثه- أننا لا نستطيع أن نتقيه كمال التقوى إلا أن يرحمنا برحمته، وعلم أن منا هنات وزلات وعيوب ومنكرات دلنا على علاجها، وأرشدنا إلى دوائها، فقال: (أَتبع السيئة الحسنة تمحها) قال بعض العلماء: الحسنة قول العبد الصالح: أستغفر الله أستغفر الله حسنة من أعظم الحسنات التي تمحو السيئات، وما من إنسان إلا عنده عورات وخطيئات ولو كان من صالح المؤمنين والمؤمنات، ولكن الله جل جلاله برحمته يرحمك، فأولاً: لا يبادرك بعقوبته، وثانياً: يتولى بجميل لطفه وعظيم رحمته وحلمه سترك وأنت تعصيه، سبحانه ما أحلمه وما أرحمه! حين يغلق العبد بابه على حد من حدود الله وهو يعلم علم اليقين أن الله يسمعه ويراه، وهو يعلم أن هذه الأرض التي يعصي عليها الله لو أذن لها لخسفت به، وأن هذه السماء التي يستظل بها لو أذن الله لها لأرسلت عليه ما يهلكه، ومع هذا كله يتولاه الله بالرحمة والستر تفضلاً منه وكرماً وجوداً سبحانه وتعالى، حتى إذا انتهى الإنسان من معصيته انطفأ نور الإيمان من قلبه على قدر ما أصاب من السيئات، فعاد قلبه مظلماً بعد النور، وعاد منقبضاً بعد الانشراح والسرور، عاد قلبه ضيقاً عليه فأرشده الله جل وعلا على لسان رسوله أن يتبع السيئة الحسنة، وأن يقول بقلب يستشعر الندم مليءٍ بالحزن والألم: اللهم إني أسأت وأنت المحسن إلي، وأذنبت وأنت الغافر الجواد الذي تمن عليَّ، فيريق دمعة من دموع الندم فلعلها تمحو ذنبه فلا يراه أبداً.
علم الله أنا مذنبون ومقصرون، لكنه فتح أبواب رحمته، قال له إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني، فالله رحيم بعباده وحليم بخلقه.
(اتبع السيئة الحسنة تمحها) إن كنت من الصالحين، فهذا نداء من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن صالح، ضعفت نفسه الأمارة بالسوء، فدعته إلى المنكرات والفواحش والشهوات فأصابه الهم أن يرجع إلى الله جل جلاله، ثم هذه الدعوة الطيبة المباركة لأقوام كانوا بيننا فابتعدوا عنا، كانوا فينا فأصبحوا ليسوا منا، لأقوام انتكسوا ورجعوا على أعقابهم فارتكسوا، هذا النداء الرحيم الحليم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها).
يا من أذنبت وأسرفت وبعدت عن الله! يا من تغربت عن الله! أتبع السيئة الحسنة تمحها، قل في ساعة المعصية بقلب صادق: أستغفر الله، فإن الله يغفر الذنوب، قل في هذه الساعة: أتوب إلى الله، فإن الله يرحم التوابين والمستغفرين، تب إلى الله قبل أن يداهمك الممات وتصير إلى اللحود والرفات، فالله جل جلاله جعل هذه الوصية سلواناً للمسيئين والمذنبين، فرحماك يا أرحم الراحمين! ما أرحمك وما أحلمك بهذا الخلق من بني آدم! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠].
ما زال ربنا يكرمنا ونهين أنفسنا، ويرحمنا ونعذب أرواحنا، فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك.