الوصية الأخيرة التي أوصي بها نفسي وكل مسلم يرجو لقاء الله عز وجل: الاستكثار من العمل الصالح، ينبغي للداعية إلى الله جل جلاله أن تكون بينه وبين الله أعمالٌ صالحة خفية، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، يجعل بينه وبين الله قياماً في الأسحار، أو تكون ساعات يبكي فيها من خشية الله آناء الليل وأطراف النهار، أو تكون له صدقات خفية على الأرامل والأيتام ونحوهم من ضعفة المسلمين، فقد كان أئمة السلف رحمة الله عليهم يحرصون على مثل هذه الأعمال الصالحة، فإذا كان بينك وبين الله عمل صالحٌ خفي، فإنها قربى ووسيلة يحب الله بها عباده، قربة ووسيلة تزيد العبد حباً في الله سبحانه وتعالى، وتستوجب له الدعوات الصالحة، وقد تكون من فقراء المسلمين وضعفائهم بما سد من حوائجهم، وفرج بإذن الله من كرباتهم.
كان أئمة السلف يحرصون على الأعمال الصالحة الخفية، فهذا علي بن زين العابدين رحمة الله عليه مع العلم والصلاح والعمل، كان إذا جن عليه الليل لبس ثيابه، ثياباً مبتذلة وحمل على ظهره الطعام ومضى به إلى بيوت الأرامل والأيتام، وهو إمام في زمانه ولم يعلم أحد أن هذا هو الإمام علي بن زين العابدين، سليل بيت النبوة رحمه الله برحمته الواسعة، وما علم الفقراء والضعفاء أنه هذا الإمام إلا بعد أن توفي، فلما توفي فقدوا من كان يقرع عليهم بيوتهم في جوف الليل رحمة الله عليه.
هكذا يكون الإنسان بينه وبين الله صدقات خفية.
وهذا شعبة بن الحجاج بن الورد الإمام الذي يقول فيه سفيان الثوري رحمه الله: كان شعبة أمير المؤمنين في الحديث.
وكان يهابه ويجله، وفعلاً كان خليقاً بهذا الخير، كان رحمه الله لا يرد سائلاً سأله، حتى إنه دخل عليه رجل وبكى واشتكى أن دابته قد فقدت منه، فسأله: كم قيمتها؟ قال: ثلاثة دنانير، فأدخل يده في جيبه، وقال: هذه ثلاثة دنانير والله لا أملك غيرها!! وكانوا رحمهم الله يضحون ويبذلون، منهم من كان يخرج عن ماله، ومنهم من كان يتصدق بنصف ماله؛ لأن العلم إذا كسر القلوب لله جل جلاله، لم يبالِ الإنسان بالدنيا جاءت أو ذهبت، والذي ضرنا ركوننا إلى الدنيا، فالأعمال الصالحة الخفية تعلم الإنسان الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وتزيد من المعاملة الرابحة ولعله أن يصيب دعوة تكون مستجابة عند الله سبحانه وتعالى، وقل أن تجد عالماً يجمع بين العلم والإحسان إلى الناس، إلا وجدته في أعلى المراتب، والقبول له كأحسن وأجمل وأكمل ما يكون، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.
والذي ضر كثيراً منا أننا نفقد مثل هذه المواقف؛ لأن هذه المواقف تنبئ عن رحمة، وتنبئ عن انكسار القلوب لله سبحانه وتعالى، فلا يرحم المسلمين إلا الرحيم، ولا يحن عليهم إلا الحنون، فإذا زين الله الإنسان بالعلم، والسعي في تفريج كربات المسلمين، وبذل قيمة هذا الجاه لقضاء حوائجهم والإحسان إليهم؛ وفقه الله وسدده وجعل الخير له وحليفه حيثما كان، فإذا مات كان وراءه الرحمات والدعوات الصالحات من المؤمنين والمؤمنات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح خير، وأن ينشر بنا كل إحسان وبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.