كذلك من ثمرات العلم النافع: أن الله يصرف قلب صاحبه إلى الآخرة ويزهده في هذه الدنيا، ولذلك تجد العلماء أغنى الناس بالله جل جلاله، جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله برحمته الواسعة، فجلس في مجلس الحسن وكان غنياً ثرياً، فلما قام من مجلس الحسن أرسل إليه بخمسة آلاف درهم -خمسة آلاف درهم في أيام الحسن شيء عظيم وكبير- ثم أرسل له بثياب وقطن، ثم جاء إلى الحسن ودفعها إليه في بيته قال له الحسن: عافاك الله ضمّ إليك دراهمك وثيابك وقطنك، فإنه ما حدث أحد بما حدثت به فأخذ ما أعطيت إلا كان يوم القيامة لا خلاق له؛ لأنه يريد ما عند الناس ولا يريد ما عند الله جل جلاله.
ويجعل الله الآخرة أكبر همك ومبلغ علمك، دائماً تفكر بآخرتك، وهذا شأن العلماء! تجد العالم دائماً يتذكر مثل هذه الساعة وهو في القبر وهو في اللحد، يتذكر وهو قائم بين يدي الله يسأله عن علمه ماذا عمل به، فإذا كان خالياً دمعت عيناه من خشية الله وقال: اللهم إني أسألك أن تلطف بي، اللهم اجعل علمي حجة لي لا حجة عليَّ، يحس بالآخرة في قلبه فينصرف، وتنصرف همته كلها إلى الآخرة، ولذلك عندما تقرأ في سير السلف الصالح وأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم تحس أن هذه الثمرة قد عجلها لهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، ومن خاف من الآخرة أمّنه الله فيها، فإن الله لا يجمع للعبد بين خوفين وأمنين، فإما خوف في الدنيا وأمن في الآخرة، أو العكس، ولذلك لما قيل لبعض السلف وقد اجتهد في العبادة: أتعبت نفسك، قال: راحتها أريد.
فالذي يتعب اليوم ويخاف اليوم يأمن غداً.
الله أعلم كم ضمت اللحود أقواماً وجلت قلوبهم من خشية الله! فإذا فيها النعيم والرضوان المقيم، الله أعلم كم ضمت اللحود الآن من أئمة ودواوين للسلف وعلماء للأمة علم الله منهم أنهم خافوا الآخرة فأمّنهم اليوم وهم فيها! وذكرهم بصالح الدعوات وقد ولوا ومضوا، فهذه عاجل ثمرات الدنيا.