للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحريم البيع لحرمة عين المبيع]

أما تحريم عين المبيع فإن الله له حكمه سبحانه وتعالى، يقول هذا حلال وهذا حرام، {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:٤١]، ملك العباد وما ملكوا، فقد يحرم الشيء لذاته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من البيوع المحرمة في خطبته حينما فتح مكة -صلوات الله وسلامه عليه- في يوم أعز الله جنده، ونصر فيه عبده وصدق فيه وعده -سبحانه وتعالى- فدخل عليه الصلاة والسلام إلى مكة متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى.

ولما كان اليوم الثاني -وكان اليوم الأول الناس هم في الحر، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها- قام خطيباً صلوات الله وسلامه عليه، وعليه عمامته السوداء ممسكاً بعضادتي الباب، فقال في خطبته: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام).

أربعة أمور ذكرها: الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام.

هذا النوع من التحريم في الشريعة راجع إلى ذات الشيء المبيع، بمعنى أن المبيع لا يصلح أن تدفع الثمن بمقابله.

الميتة: أكلها ضرر وأذية، ولا يمكن أن ينتفع بأجزائها، وهي نجسة؛ ولذلك حرم الله بيعها، فلا تباع بذاتها ولا بأعضائها وأجزائها، إلا ما استثنى الشرع منها وهو جلد الميتة إذا دبغ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقط طهر).

من أمثلة هذا النوع الموجود الآن ويخفى على الكثير: تحريم بعض الدواب الميتة، قد يُؤخذ مثلاً ثعبان ويحنط، وهو ميت فيباع، إذا نظرت إلى هذا البيع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم بيع الميتة)، إذا تأملت ونظرت وتدبرت وتفكرت هذا الثعبان إذا حنط ودُفعت فيه المبالغ الباهظة والكثيرة، التي تسد الرمق، ويكون فيها الخير لو أنفقها الإنسان في مجالات أخرى، أي مصلحة في دفع هذا المال الكثير لحيوان يحنط ويجسم؟! فإذاً تحريم الشرع فيه الحكمة البالغة لمثل هذا، لكن لو أن الحيوان ذُكي وحنط فلا حرج؛ لأنه أصبح طاهراً، وفي هذه الحالة يزول معنى النجاسة الموجودة فيه، وإن كان بعض العلماء يعده ممنوعاً من جهة المصلحة؛ لعدم وجود المصلحة في بقائه.

إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر؛ فالله حرم الخمر لكونه يفسد العقول ومقاصد الشريعة والأديان السماوية حفظت على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، فأي شيء يمس هذه الأمور الخمسة فإنه يعتبر في هذه الحالة محرماً، فالخمر تمس العقل الذي يكون الإنسان مرتقياً به عن مرتبة البهيمة؛ فحرم الله بيعها.

ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فتح الطائف، وكان له صديق في الجاهلية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنعم الله عليه بفتح الطائف فجاءه بهدية، وكانت الهدية عبارة عن قربتين من خمر، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهديته -وكان صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً رحيماً، لا يعنف ولا يقهر الإنسان في وجهه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه! - نظر إليه وقال: أما علمت أن الله حرم الخمر -يعني تعطيني هذه من باب الهدية، أما عندك علم أنها حرام-؟! قال: لا.

فقام رجل -وكان جالساً- فسارَّ صاحب الهدية -بمعنى كلمه سراً في أذنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: بم ساررته -ما الذي قلت؟ - قال: أمرته أن يبيعها -ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يريدها، وهي محرمة في الشرع- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها -وفي رواية: بيعها-).

تبيعها؟! فمن الذي يأخذها؟ ومن الذي يستفيد منها؟ فحرم الله مثل هذا البيع لهذا.