للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الضعفاء والمساكين والأرامل من المتعطشين للرحمة]

ينبغي للمسلم أن يبدأ أول ما يبدأ بالقرابة، فإذا وفقه الله برحمة الأقرباء، نظر الإنسان إلى أحوج الناس للرحمة، وقد ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الإحسان إلى الضعفاء وإدخال السرور عليهم، وكما أن المسلم يرجو رحمة الله في سجوده وركوعه، فإنه يشتري رحمة الله في اللطف والإحسان بضعفة المسلمين، وقد ابتلى الله الأغنياء بالفقراء، وابتلى الأقوياء بالضعفاء، ورفع درجات بعضهم على بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

فالسعيد العاقل من تزيده نعمة الله تواضعاً لعباد الله، ومن تزيده نعمة الله توطئة للكنف لعباد الله وإماء الله، يشتري رحمة الله بالإحسان إلى الضعفاء والفقراء والبؤساء، فيكفكف دموع اليتامى، ويجبر قلوب الأرامل والثكالى، يشتري بذلك رحمة الله.

وقد أثر عن علي بن زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا جن عليه الليل حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام -وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين ومع ذلك تواضع لله عز وجل؛ لعلمه أن الله يحب منه تلك الخطوة، ولعلمه أن جبر تلك القلوب يجبر الله به كسر العبد في الدنيا والآخرة- فخرج رحمه الله في الظلام بعيداً عن الرياء والسمعة والثناء، يشتري بذلك رحمة الله سبحانه، فلما توفي رحمه الله فقدت تلك البيوت من كان يقرع عليهم في جوف الليل، وفي بعض الروايات: كان ما يقرب من ثلاثين بيتاً من ضعفة المسلمين، كان يمشي إليها بخطواته، فمات رحمه الله وما ماتت تلك الخطا، وسيراها بعينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها، فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله خلعوا ثيابه فوجدوا ظهره متشحطاً من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله برحمته الواسعة! كانوا أئمة في الإحسان وجبر القلوب، قد تمر على أرملة في ليلة ظلماء، وقد لا يكون عندها الطعام وهي في شدة الحاجة وشدة المسغبة، فتصيبها برحمة ساقك الله عز وجل بها من طعام أو مال، فتقف حائرة لا تدري ما الذي تقدمه لك، فلا تجد إلا أن ترفع كفها إلى الله داعيةً لك بخيري الدنيا والآخرة، فترجع إلى بيتك قرير العين عن الله، تقول: ربي إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير.

فجبر مثل هذه القلوب وإدخال السرور عليها عظيمٌ عند الله سبحانه: (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب فرأته في شدة العطش والهاجرة يلهث -يأكل الثرى- فنزلت فملأت موقها من الركية -أي البئر- وسقت الكلب، فشكر الله لها -أي أن الله أعظم منها هذه الرحمة- فغفر لها ذنوبها) وفي رواية: (فشكر الله لها -أي أن الكلب لا يدري كيف يجازيها فاتجه إلى الله جل جلاله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً فسأل الله أن يشكرها- فغفر الله لها ذنوبها).

الله أكبر! لن تجد ألذ من ساعة -بعد الإيمان بالله عز وجل وحلاوة مناجاته- مثل ساعة تحس فيها أنك أدخلت السرور فيها على محزون، أو نفَّست كربة مكروب، أو قضيت ديناً عن مديون تشتت ذهنه وعظم همُّه وظنه فأصابه ذل النهار وهمُّ الليل، فجئت بكل عزيمة إيمانية صادقة، والله مطلعٌ على قلبك، وأنت ماضٍ إليه تشتري رحمة الله لا تريد ثناءً ولا سمعةً ولا رياءً ولكن تريده سبحانه، فيعظم الله لك الثواب والأجر، إنها رحمات يوفق الله لها من أحب، أعطى الله الدنيا لمن أحب ومن كره، ولم يعطِ الدين والرحمة إلا لمن أحب، فالإحسان إلى الناس خاصةً الضعفاء والبؤساء أمرٌ عظيم.

ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الإحسان إلى الأرملة والقيام على حوائجها ينزل صاحبه منزلة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم: كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) وكان بعض العلماء يفضل السعي في قضاء حوائج المسلمين، حتى إن بعض أئمة السلف كان يفضل قضاء حاجة الأرملة على الاعتكاف في المسجد؛ لأنها إذا سألت ربها وابتهلت إلى خالقها سألت من قلب ودعت بصدق، فينال الإنسان بهذه الدعوة خيري الدنيا والآخرة.