أما الأمر الرابع للصائم الذي وفقَّه الله لبلوغ شهر رمضان، فهي: استلهام العبر من هذا الشهر المبارك.
فكم في شهر رمضان من مواقف تذكر قلوب المؤمنين! وتنبهها من الغفلة وتقودها إلى رب العالمين! أول ما يتذكره الإنسان إذا جاعت أحشاؤه وظمئت أمعاؤه، هو تذكر ذلك اليوم الذي يشتد حره، ويعظم ظمؤه! وهو في يوم يسير يجد الجهد من دقائق وساعات يسيرة، بعدها يصيب البغية وما لذ من الشراب والطعام، ولكن من الذي له ساق إذا وقف في المحشر! ومن الذي يكف عنه الظمأ إذا اصطفت قدمه بين يدي الله تبارك وتعالى! فما ظمئ مؤمن صائم إلا تذكَّر بالظمأ ظمأ يوم القيامة، وتذكر الظمأ الذي لو شاء الله أن لا يطعم شراباً بعده ما طعم، لذلك ففي يوم الصيام تذكير بيوم القيام.
وأما العبرة الثانية للصائمين: فإن الجوع والظمأ يعود العبد على الصبر والجهاد والكفاح في طاعة رب العباد، يهيئ هذه النفس على الصبر والمصابرة والمثابرة والمرابطة في محبة الله تبارك وتعالى.
العبرة الثالثة: الصيام طريق للإخلاص، يغذِّي القلوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى، أليس الصائم قادراً -بإذن ربه- أن يصيب ما شاء من طعامه وشرابه؟ ولكن يعلم أن الله يسمعه ويراه، وأنه مطّلع عليه، فعندها تتحرك في النفس بواعث الإخلاص، ولذلك قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأن أجزي به) فإن أصدق عبادة وأخلصها هي عبادة الصيام، فقوله تعالى:(فإنه لي) أي: إنه يقع خالصاً له سبحانه وتعالى.
العبرة الرابعة التي يجنيها عبد الله المؤمن في يوم صيامه: أن يتذكر بذلك الصيام إخواناً له في الدين والإسلام، يتذكر أحشاءً ظامئة، ويتذكر الضعفة والمساكين والبائسين والمحرومين، يذكره الصيام بمن لا يستطيع الشراب والطعام، فيبعث في النفس بواعث الخير، ويحرك فيها المسير في طريق الجود والسخاء والمنح والعطاء علَّه أن يفوز برحمة الله ورضوانه، فعندها لا يتمالك الصائم إذا سمع عن أخٍ له في الإسلام أنه أصابه الجوع والظمأ حتى تتحرك نفسه لكي يغيثه بإذن الله من جوعه وظمئه، فكم من ساق -سقى لوجه الله- سقاه الله يوم الظمأ شربة لا يظمأ بعدها أبداً! وكم من صائم تذكَّر الجائع فأطعمه لوجه الله فوقاه الله شر يوم القيامة! {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[الإنسان:٩ - ١١] فالصيام يحرّك الأخيار الكرام إلى الجود والسخاء إلى التضحية والفداء إلى بذل الأكف في طاعة الله ومحبته، فتسخو اليد لكي تفوز برضوان الله تبارك وتعالى.