[التوفيق في طلب العلم]
فتأتي بعد ذلك الثمرة الثالثة: وهي التوفيق في العلم، إذا أخلصت وأكثرت من ذكر الله جل جلاله فكنت ممن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويستغفر ربه قائماً وقاعداً، يذكر الله على كل حاله، فإن الله يفتح لك أبواب التوفيق، وقلّ أن تجد طالب علم كثير الذكر لله إلا وجدته موفقاً في طلب العلم، وبارك الله له في جوارحه، وبارك الله له في ليله ونهاره فأحبه الله، وإذا أحب الله العبد عصمه من فتنة الشهوات، وحفظه مما يقذفه الشيطان من الشبهات، فأصبح على البصيرة والنور والهدى وعلى الصراط المستقيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:٢٩] فيجعل الله للعبد بهذا السبب العظيم نور التقوى.
فإذا أخلصت وذكرت الله جل جلاله وفتح لك أسباب التوفيق كان من أعظمها وأجلها أن توفق للعالم الرباني الذي أخذ العلم عن أهله، فابحث عن من زكا في علمه وقوله وعمله، وأخذ هذا العلم عن العلماء الصالحين الذين ورثوا علم الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زكَّى حملة العلم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله).
فإذا أراد الله أن يوفقك في طلب العلم حبب إلى قلبك العالم العامل، ورزقك العالم الرباني الذي يذكرك بالله منظره، ويدلك على الله عز وجل مخبره، يدلك على عالم تلتزم به حجة بينك وبين الله جل جلاله، قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله)، لما رأى من مالك رحمه الله حبه للكتاب والسنة، وحرصه على النص، وعلى الاهتداء بهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضيه حجة بينه وبين الله جل جلاله، فإذا وفقك للعالم فقد أخذت مفاتيح العلم، والعالم الرباني يدل على الله جل جلاله، يدل على الله بقوله وعمله وسمته ... وإذا أردت أن تنال ثمرة العلم على أتم الوجوه وأكملها فالزم ذلك العالم محافظاً على حقه، مستديماً لما له عليك من واجب حبه وتقديره وإجلاله وإكرامه، فإن العقول السلمية أجمعت -والحكماء أجمعوا- على أن من أجلّ شيئاً وأحبه انتفع به.
ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يجعل علمه مقروناً بالأدب والإجلال والتقدير، ولذلك قال موسى بن عمران للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:٦٦] وهذا شيء من التذلل والتواضع للعلماء، وهذا يدل على أنه ينبغي لطالب العلم أن يشعر العالم بالتقدير والإجلال؛ لأن تعظيم العلماء وإجلالهم تعظيم لشعائر الله.
فإذا رزقت هذا العالم العامل فاحرص على أن تكون أفضل طلابه، واحرص بارك الله فيك على أن لا تقع عينه منك على شيء يشينه! واحرص وفقك الله على أن لا يسمع منك ما يؤذيه! واحرص بارك الله فيك على سؤال الله أن يجملك وأن يجعلك خير الطلاب! فإن العالم يحرص على نفع خير الطلاب وأفضلهم.
وإياك أن تزدري العلماء! إياك ثم إياك أن تزدري من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم! بل اجعل في قلبك حبهم وودهم وتقديرهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
فإذا عاشرت العالم وكنت معه فكن معه بمشاعرك وأحاسيسك، فإياك أن تضيق عليه في قول! أو تحرجه في مسألة! أو تعييه في وقت هو وقت راحته واستجمامه، وتحرص على الأدب معه فيما يأمرك به وينهاك، فإنه إن كان متقياً لله أمرك بأمر الله، ونهاك عما نهى الله عز وجل عنه.
كان العلماء يوصون طلاب العلم دائماً بالعمل، فإذا سمعت العالم يدلك على سنة فاحرص على العمل بها، وإذا دلك على خير احرص على تطبيقه، وإياك أن تتعذر بالعجز أو الكسل، إذا سمعته يذكر سنة في الصلاة أو في الطهارة أو في حجك وعمرتك فاحرص على تطبيقها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن كل كلمة تسمعها من هذا العالم من العلم إما حجة لك أو حجة عليك، لو أن طالب العلم كلما جلس في مجلس علمه شعر أن هذه الكلمات وهذه الجمل التي تقال له في هذا المجلس إما حجة له أو حجة عليه، فإنه -والله- يشفق على نفسه من الهلاك، كل كلمة وكل جملة إن عملت بها كانت حجة لك، وإن تركتها كانت وبالاً وحجة عليك.
جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأخذ يسألها المسائل ثم رجع لها بعد حين وسألها عن مسائل ثم رجع لها ثالثة وسألها عن مسائل فقالت له ذات يوم: (أي بني! أكل ما سألتني عنه عملت به؟ -أي: هذه السنن التي سألتني عنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عملت بها- فقال الرجل: لا يا أماه!، وجلس يشتكي من التقصير والعجز والكسل، فقالت: يا بني! لِمَ تستكثر من حجج الله عليك؟ هذا العلم الذي تسمعونه في المحاضرات والدروس والمجالس، بل حتى لو مررت على حلقة عالم وسمعت سنة -والله- أنها حجة لك أو حجة عليك، وخاصة إذا تغرّبت عن بلدك وعن الأهل والأوطان والأحباب والخلان؛ فاعلم أن هذا العلم سيسألك الله عنه إن سألك أهلك وعشيرتك فضيعتهم، إن الله سائلك عن هذه الحجج التي تسمعها، فكما تغربت من أجل أن ترجع إليهم عالماً حاملاً احرص على ضبط كل سنة وكل مسألة، وهذا من دلائل التوفيق، هذه ثمرة الإخلاص.
والله! ما أخلص أحد في طلب العلم إلا فتح الله له من أبواب رحمته، ويسر له من العلماء ومن العلم الذي يتعلمه على قدر إخلاصه وزاده الله من فضله، فيحرص طالب العلم على هذا الأمر العظيم، وهو أن يعمل بكل ما علم وأن يطبق ذلك على أتم الوجوه وأكملها.