[الاستهزاء بالدين وأهله]
ومن آفات اللسان التي تخرج من الملة أن يستهزئ العبد بالدين.
يوم يطلق لسانه في معالم هذا الدين لكي يستهزئ ولو بكلمة واحدة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في غزوة تبوك في شدة الحر -وسماها الله عز وجل ساعة العسرة؛ لأنها ساعةٌ شديدةٌ امتحن الله فيها عباده المؤمنين- وخرج معه أصحابه الكرام، وخرج قومٌ لم تسلم لله قلوبهم كما أسلمت ظواهرهم.
فكان من هؤلاء القوم طائفةٌ أرادوا أن يقطعوا طريق السفر لما شعروا بالسآمة والملل، فلما أرادوا أن يتحدثوا بحثوا عن الشيء الذي يتفكهون به بحثوا عن الشيء الذي يضحكهم ويسليهم فلم يجدوا إلا عباد الله الصالحين، فقال قائلهم: (ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء!) من هم؟ إنهم القراء؛ حفاظ كتاب الله عز وجل، يقولون: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أناس يحبون الدنيا- وأجبن عند اللقاء وأخوف عنده! فنزل جبريل من أطباق السماوات العلى بتلك الآيات العظيمة من الله جل وعلا يوم سمع أحبابه وأولياءه ينتقصون من هؤلاء الذين لا خير فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦]؛ ليس لكم عذر، قد كفرتم وخرجتم من الدين والملة بهذه الكلمات اليسيرة، فصاروا يتعلقون بناقة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (يا رسول الله! كنا نتحدث حديث الركب -كنا نقطع مسافة السفر- وكانت الحجارة تضرب رجل أحدهم فتسيل بالدماء والنبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦]) أضاقت عليكم الدنيا فلم تجدوا شيئاً به تفرحون، أو منه تضحكون إلا عباد الله الصالحين؟ وهذه هي عاقبة كل من استهزأ بأولياء الله وعباد الله الصالحين.
فإياك، ثم إياك وأولياء الله! وإياك ثم إياك والراكعين الساجدين، فإن الله يحبهم ويحب من أحبهم، ويعادي من عاداهم، فلا تنطقن بكلمةٍ تستحق بها قول الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥]، قال بعض العلماء: إن هؤلاء القراء حفظوا كتاب الله، فكان الاستهزاء بهم استهزاء بدين الله عز وجل، ولذلك قالوا: من استهزأ بالعالم واستخف بالداعية إلى الله فقد استهزأ بالدين، من قال: هذا العالم لا يفهم شيئاً هذا العالم يحلل ويحرم من عنده، واستهزأ بالعلماء واستهزأ بآرائهم، واستخف بفتواهم فله نصيبٌ من قول الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥].
إنهم دواوين العلم الذين شرح الله بالقرآن صدورهم، إنهم رجال الدين والإيمان الذين نور الله بالوحي قلوبهم، إنهم رجال الدين الذين حفظوا كلام الله رب العالمين، وحملوا رسالة إله الأولين والآخرين؛ فكانوا ربانيين بما يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون.
فاتق الله، اتق الله في العلماء والدعاة والهداة إلى الله، لا يمسَّنك الله بعذاب في كلمة قلتها في عالم أو داعية إلى الله، وكن ذلك الطيب الذي لا ينفح إلا طيباً، ولا يسمع منه إلا الطيب، فإن الله إذا طيب قلب الإنسان طيب لسانه.
كن ذلك الخيِّر الديِّن الذي يخاف الله فيما يقوله وينطق به لسانه، واذكر محاسنهم، وشيَّد بين الناس مآثرهم، وكن حافظاً لعوراتهم داعياً لهم بظهر الغيب، فلك من دعوتك أوفر حظ ونصيب.
ألا وإن من الاستهزاء بالدين الاستهزاء بشرع الله رب العالمين، فإياك أن ينطق لسانك بكلمة في حكمٍ لله جل جلاله، إذا سمعت أن الله أحل أمراً أو حرمه فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥] لا تقل: كيف هذا؟ لا تقل: لا يصلح هذا.
لا تقل: هذا لا يعجبني.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:٤٠].
أسلم لله قلباً وقالباً ولساناً، وليكن منك الرضا والتسليم، فإن الله يقول للنبي الكريم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] يقسم الله جل جلاله هذا القسم العظيم أن لا إيمان لهم حتى يحكموك فيما شجر بينهم، حتى تنصاع وتصبح ذليلاً أمام الكتاب والسنة (حتى يحكموك) فإذا جئت في خصومة بينك وبين جارك أو أخيك، فأول شيء تقوله: ما حكم الله ورسوله فيما بيني وبينك؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥] وليس وحدها {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:٦٥] أي: لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً {حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] هذا هو الإيمان، هذه هي العبودية الحقة لله العظيم الديان، فاتق الله فيما تقول، واتق الله فيما تعتقده فإن الله سائلك عن كل ما يلفظ به لسانك.