[بر الوالدين بعد مماتهما]
أما الخصلة الثانية والوصية الثانية التي يحتاجها من أراد بر الوالدين فهو: بر الوالدين بعد الممات، فأحوج ما يكون الوالدان إلى بر ابنهما إذا خرجا من الدنيا فصارا إلى دار البلاء، فما أحوجهما إلى دعوة صالحة أو استغفارة أو رحمة صادقة يرفع بها الابن كفه إلى الله تبارك وتعالى، قال: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم.
الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ابتلاه الله بفقد والديه يريد أن يسأل هل بقي من حقهما شيء؟ فقال: يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم.
فلا يزال بر الوالدين ديناً على الإنسان مادامت روحه في جسده، ومن ظن أن البر ينتهي بوفاة الوالدين فقد أخطأ، فلا يزال بر الوالدين ديناً في عنق الإنسان إلى أن يلقى الله جل جلاله، يحتاجان إلى دعوة صادقة ويحتاجان إلى استغفارة تسبغ بها شآبيب الرحمات وتضفى بها من الله عز وجل المغفرات، فأحوج ما يكونان إليه برهما بعد موتهما، فيكثر الإنسان من الاستغفار لهما وكلما كان الإنسان ذاكراً والديه بعد وفاتهما فإن الله يفي له كما وفى لوالديه.
والله ما ذكرت والديك بعد وفاتهما إلا سخر الله لك من يذكرك كما ذكرتهما، والله ما ذكرت الوالدين بدعوة صالحة فنفس الله بها في القبور كرباتهما أو رفع بها درجاتهما؛ إلا سخر الله لك من يذكرك إذا صرت إلى ما صاروا إليه، فإن الجزاء من جنس العمل.
أما الوصية الثانية في بر الوالدين بعد الوفاة: صلة قرابة الوالدين، وأحق من تصل أبناء الوالدين، فإن الإنسان قد يتوفى أبوه ويترك له إخوته وإخوانه وهما أحوج ما يكونون إلى عطفه وبره، فلذلك كان من أصدق البر للأب العطف على يتيمه والعطف على صغيره، فمن ابتلاه الله فكان أكبر إخوانه فقد صار ديناً عليه أن يفي لأبيه بعد وفاته؛ فيحسن إلى إخوانه وأخواته، فمن أجل القربات وأفضل الطاعات أن تحسن إلى يتيم الوالدين، ولذلك قال العلماء: إن الإحسان إلى اليتيم على مراتب: أعلاه: اليتيم القريب، وأقرب قريب إذا كانوا إخوة لك، فإن الإخوة إذا فقدوا الأب احتاجوا إلى من يسد ذلك الفراغ الذي كان فيه الأب، احتاجوا إلى أخيهم الكبير في كلمة حنونة أو عطف أو بر أو إحسان، أو دفع شدة أو كربة بعد الله جل وعلا، فإذا قابل الأخ إخوانه بهذا العطف وهذا البر كان أصدق ما يكون من ذكره لحق والديه عليه، ولذلك كان من أشد ما يكون على اليتيم أن يبلى بأخ يسيء إليه ولا يحسن إليه، فخير ما يوصى به من فقد والديه وخلف له الوالدان أبناءً وبناتاً يحتاجون إلى عطفه أن يبر الوالدين بالعطف على أولئك الصبية الضعفة، وأن يحتسب عند الله جل وعلا إدخال السرور عليهم.
الخصلة الثالثة في بر الوالدين بعد الوفاة: صلة أهل ود الوالدين من الأرحام -العم والعمة والخال والخالة- بزيارتهم وتفقد أحوالهم والإحسان إليهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
مشى عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه في سفره من المدينة إلى مكة وكان عنده دابة يركبها ويتروح عليها إذا تعب، فرأى أعرابياً يسير فنزل عن دابته وألبسه العمامة وحياه وأكرمه، ثم لما مضى قال له أصحابه، لم أعطيته الدابة رحمك الله؟ قال: إن هذا كان أبوه صديقاً للخطاب في الجاهلية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).
قال بعض العلماء: إنما كان براً؛ لأن صديق الوالد إذا رأى ابن صديقه ذكر الوالد فترحم عليه، وذكر جميل أفعاله وأثنى عليه، فكان ذلك من بر الوالدين، ولذلك تعتبر هذه وصية لمن فقد والديه أن يحسن إلى أصحابهما -إن من أبر البر أن يصل أهل ود أبيه- يتفقدهم بالزيارة، وإن وجد منهم خلة أو حاجة سدها يحتسب عند الله عز وجل برها، فهذه من القربات التي تكون للوالدين بعد الممات.