[من علامات الساعة اتخاذ الناس الجهال أمناء على الدين]
السؤال
لقد انتشر في هذا الزمان بعض ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتحدث بغير علم ويفتي في دين الله بلا دراية، فهل من توجيه لهؤلاء أثابكم الله؟
الجواب
الشكوى إلى الله عز وجل.
العلم دين! ولا يؤخذ الدين إلا من أهله، وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل في هذا الدين، فلا يأخذوه إلا من العلماء الأمناء، وكون كل إنسان يتكلم ويفتي هذا من أمارات الساعة، ومن علاماتها: كثرة الجهل، وقلة العلم، وقبض العلماء؛ لأنه لو كان العلماء موجودين وكثيرين لخرست أفواه الجهلاء، ولما استطاعوا أن ينطقوا؛ لأن العلم حق يقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
ولكن حينما يقبض العلماء يسترسل الناس في دين الله وشرعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس) وانظر إلى كلمة (اتخذ الناس) ما اتخذه رب العالمين، الله تعالى يقول: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦٩] (اتخذ الناس) هذه الأساليب اللغوية الجميلة البديعة! (اتخذ الناس) تجدهم يضعونه في الفضائيات، ويشهِّرون به، وهو الإمام! وهو الشيخ وهو المفتي! وهو المنظر! وهو الذي يعرف الدين وهو الذي يعرف كيف يؤصل ويقعد؛ لأنه على الهوى وعلى ما تشتهي الأنفس، وعلى ما يريدون، فهم يريدون الدين كيف شاءوا وكيفما أرادوا، لا كما أراد الله عز وجل؛ لأنهم لو كانوا يريدون الدين كما أراد الله لرفعوا مكانه العلماء الربانيين الذين يرجع إليهم ويؤخذ عنهم، وينصحون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في إظهارهم للناس وبيان علمهم.
(اتخذ الناس) اتخاذ الناس من أكثر ما يوجد بالمدح والثناء، وإعطاء الألقاب الكبيرة، والأوصاف المفخمة التي والله لو أعطيت لعالم جهبذ من علماء السنة والسلف وهو أهل لذلك لجثا على ركبتيه؛ خوفاً من الله عز وجل أن يقال له! ومع ذلك تجد الإنسان -والعياذ بالله- يغتر بها وينجرف وراءها، وهذا هو شأن الجهلاء.
فعلينا أن نحذر من هؤلاء الذين تقمصوا ثوب العلم والدعوة.
العلم نور والله! ولو أطبقت شموس الدنيا على أن تضيء ظلمة أظلمها الله ما استطاعوا، ولن يظلموا على الحق؛ فإن عليه ضياء، ولو أطبق أهل السماوات والأرض على قول باطل وأرادوا أن يفتوا به ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ليتكلم المتكلمون! وليفتي المفتون! وليفعلوا ما شاءوا! وليقولوا ما شاءوا! فلا يبقى إلا الحق الذي أراده الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:١٧] لا يبقى إلا الحق، ليسوا أول من تكلم ولا آخر من تكلم، ولا يتكلم المتكلمون، ولكن لا يبقى إلا ما أريد به وجه الله، وهذه سنة ماضية.
السلف الصالح رحمهم الله عانوا من ذلك ومنهم: ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك الذي كان يقال له: ربيعة الرأي من قوة رأيه وفتواه واجتهاده، والذي تتلمذ على يديه الإمام مالك، وقالت أم مالك لـ مالك: اذهب إليه فخذ من سمته ودله قبل أن تأخذ من علمه.
فرزق السكينة والعلم والوقار بهذا العالم الرباني بعد فضل الله عز وجل.
هذا العالم ماذا كان يقول؟ ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا رجلين يعني: قريب العهد في المدينة المنورة دار النبوة ودار الهجرة! وفي زمن القرون المفضلة! ومع ذلك دخل عليه مالك وهو يبكي فيقول: والله إن فلاناً يتكلم في العلم أحق أن يقطع لسانه من يد السارق.
يبكي من كثرة القول على الله بغير علم، وهذا في الزمان الأول، فكيف بزماننا نحن؟! ولذلك لا يبالي الإنسان بهذا، دين الله منصور وكلمة الله ماضية، الله عز وجل يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:١٨] الذي عند الناس سيبلى ويفنى، والذي عند الرحمن يبقى، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥] ستبقى كلمة الله! ويبقى دينه وشرعه، فلا يحزن الإنسان هذا؛ لأن الله يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧] يأتون بالفتاوى ويتتبعون بها رخص العلماء، ويخرجون الأمة من دينها بأشياء من عزائم الدين ويرخص فيها؛ فيصبح الدين سهلاً على رأيهم ونظرهم، وكأنه ليس في الدين شيء مع عزائمه والعياذ بالله، يسلقون الدين -والعياذ بالله- وينقضونه عروة عروة في الآداب والأخلاق والشيم! حتى أنك تجد العالم من يتسمى منهم بالعلم ويدعي العلم، الأمة بحاجة أن تنصح في أمور عظيمة، ومع ذلك يخرج يتكلم عن رخصة من الرخص قد يكون لا يقول بها إلا الشذاذ، ويقعد لها وينظر لماذا؟ لأنهم يتبعون الهوى، ما خرجوا غيرة لله ولا لدينه وشرعه.
فهذه الآفة الموجودة من كثرة المفتين والقائلين على الله آفة عظيمة! لكن ليس البلاء على هؤلاء أن يتكلموا، البلاء كل البلاء على من ينصت لهم ويستمع إليهم ويعمل بقولهم، فإياك إياك! أن تعطي سمعك إلا لمن تثق بدينه وأمانته.
كان أيوب بن أبي تميمة السختياني -من تلامذة ابن عمر رضي الله عنهما ورحم الله الجميع- من أصلح خلق الله، وكان ديواناً من دواوين العلم والعمل في حفظه للسنة عن ابن عمر رضي الله عنه، من خيار أصحاب ابن عمر، كان ابن عمر يقول لأصحابه: أيكم الأبيض المشرب بحمرة؟ قالوا: أيوب.
قال: أراه أصلحكم.
كان يتفرس ابن عمر أنه أصلح طلابه، وكان كذلك في الصلاح والخير والصيانة، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً.
هذا الإمام العالم الصالح كان إذا جاءه شخص من أهل البدع القدرية وأهل الأهواء يريد أن يناظره -وهو عالم رباني متمكن- يقول له: أريدك أن تسمع مني.
فيضع أصبعيه في أذنيه.
يقول: اسمع مني، فقط اسمع مني.
يقول: ما شاء الله! حرية الرأي والمناقشة، نريد نناقش من تناقش؟ أتركك تقول على الله بدون علم، أُجرئك على أن تقول؟! قل لي من أنت؟ أين طلبت العلم؟! ما الذي تحفظ من كتاب الله؟! ما الذي تحفظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! سم لي رجالاً حتى أصغي إليك وأعرف ما عندك، أما إذا كان ما عندك علم فمثلك ما يستمع إليه؛ لأن مثلك ليس بأهل بأن يتكلم في هذا الأمر.
يخرج العالم الرباني ليتكلم في مسألة فتجد شخصاً يقول: عندي مداخلة يا شيخ! عندي إضافة يا شيخ! يا لله ياللأسف!! ذهبت حرمة العلماء والعلم، وهذا كله من غربة الدين! والناس تنظر إلى هذا، كما قال أنس: (إنكم لتفعلون أعمالاً هي أدق في عيونكم من الشعر، كنا نراها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال الجبال).
توقير دين الله وشرعه أمر عظيم، واحترام أهل العلم والفتوى، كان الناس إذا تكلم العالم بالفتوى لم يراجع، مؤتمن على دين الله عز وجل وشرعه محبوب! مهاب! مكرم! المرأة تأتي إلى بيت زوجها وأبيها وأخيها وابنها وتقول: سأفعل كذا وكذا يقال لها: من قال لك؟! كيف تشقين على نفسك؟! تقول: الشيخ أفتى.
يقولون: سمعنا وأطعنا.
ما أحد يتقدم ولا يتأخر؛ لأن هذا دين وشرع! ومعروف من الذي يتكلم في الدين والشرع، أما أن يفلت الزمام لكل من هب ودب، وكل يوم تدخل المرأة على زوجها بفتوى قال فلان وأفتى فلان وعلان، فعلى كل إنسان أن يعلم أن هذا الدين من تكلم فيه فهو حجة له بين يدي الله عز وجل.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله.
أذكر في مجلس من المجالس أنني كنت أفتي فيه، وكان هناك رجل يرخص في الفتوى، فكان بعضهم يأتي ويرخص له، يقول أحد القائلين: وكان يناقش كثيراً، وهو من خيار طلبة الوالد ومن طلبة العلم، وكان يستفتي غيري ثم يناقشني، فمكثت على هذا أكثر من خمس سنوات، فذات يوم قال لي: يا شيخ! أنت تشدد علينا.
كثيراً ما يقول لي هذا وأنا أدفعه بالتي هي أحسن! فيوم من الأيام قال لي: يا شيخ! أنت تشدد علينا.
فقلت له: اتق الله! سأسألك سؤالاً، هل الذي أفتيت به فيه قال الله وقال رسوله؟ قال: اللهم نعم -نعم أنت تذكر الفتوى بالدليل-.
قلت: إذا ذكرت الفتوى بالدليل فلا يجوز لك أن تقول لي أني شددت؛ لأن هذا حكم الله عز وجل، ولا أن تقول لي: أنت تتساهل.
ما دام عندي دليل من كتاب الله وسنة رسوله.
فإذا به يقول -وهذا موضع الشاهد، أحكيها للعبرة ولا أحكيها عن غيري، واحتجت أن أقولها عن نفسي حتى يكون مثالاً-: والله يا شيخ! وأقسم بالله -وغلظ اليمين- إنك تفتينا في المسألة ويدخل علينا عشرات ممن يرخصون لنا، لكن والله لا نجد الطمأنينة إلا في قولك.
الحق عليه نور، الحق منصور بذاته: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:١٠٥] الحق لا يحتاج إلى أحد ينصره، الله عز وجل هو الذي تولى نصرته.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا هذه المنهجية: وهي الرجوع إلى العلماء الأمناء، نوصي أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا، وجميع من حولنا على ألا يسمعوا إلا ممن يوثق بدينه وعلمه هذا أول شيء.
ثانياً: إذا جاءوا بفتاوى من الغرائب وممن لا يوثق بدينه وعلمه نذكرهم بالله، ونقول لهم: هذا دين وشرع لا تصح الفتوى إلا ممن يوثق بدينه وعلمه، ومشهود له أنه من أهل للفتوى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.