ما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم من الله ولا أوفى منه، فإذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخّر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببته، ويأخذونه من فمك -طيباً مطيباً- كما أخذته من علمائك طيبا مطيباً، وكما أصبحت أنك قرت عين للعالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلا بد أن يقر الله عينك لطلابك، وهذه سنة لله عز وجل، وانظر في السلف؛ فإنك لا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحَّى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله؛ ابن عباس عندما توفي جاء بعده سعيد بن جبير، وطاوس بن كيسان، ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينهم وبينه علماً وعملاً، فلا بد وأن يقر الله عينك بقدر تعبك في طلب العلم.
الآن انظر إلى الذين يأخذون من الكتب ويقرءون فيها -ولو كانوا أذكى الناس- فإنهم إذا رقوا منبراً أو تكلموا في أمة لن تجد لهم من القبول والمحبة والرضا ما تجده لمن تغبَّرت قدماه وذلَّ تحت أقدام العلماء لله جل جلاله، فإنك تجد من المحبة والألفة والقبول لهذا ما لا تجده لذلك، مع أنه أذكى وأحفظ، لكن لن تجد له من القبول مثل ما تجد لهذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى عدل، ومن عمل خيراً فإن الله سبحانه وتعالى يوفيه خيراً في الدنيا وفي الآخرة.
وفي زمن طلبي للعلم قلَّ أن نرى شاباً يطلب العلم، والله يشهد، ولا نقول هذا تفاخراً بل كل الفضل والمنة لله، وقد كنت -والله- أدخل المسجد النبوي وأرى كثيراً ممن يجلسون في مجالس العلماء هم من كبار السن، وكان الشيطان يأتيني ويقول لي: إذا مات هؤلاء فمن الذي يطلب عندك؟ ولو جلست تطلب العلم عشر سنوات فسيموتون أو يهرمون ولن يحضروا دروسك.
هكذا كان عدو الله يقول لي، فلم نكن نرى الشباب بالكثرة التي نراها اليوم، ولكنها كلمة الله ودين الله، وإذا تولى الله دينه فإنه نعم المولى ونعم النصير.
المقصود: أنه ينبغي على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن يتعب في طلب العلم، ويحرص على ألا يتصدر إلا بعد الضبط والجلوس بين أيدي العلماء حتى يكون له من القبول مثل ما كان لهم، بل إن الله يزيدك، وكان أحد السلف رحمه الله يقول: اللهم اجعلني كفلان، فقيل له: لا، بل قل: خيراً من فلان، فإن فضل الله عظيم وخزائنه ملأى، ويده سحاء في الليل والنهار، ومن أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه كما في حديث أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وسلم:(يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له).
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم اجعلنا ممن ظن بك الخير، ووفيته وزدته من فضلك يا كريم، اللهم اجعل علمنا حجةً لنا لا حجة علينا، اللهم بيض به وجوهنا، وثقل به موازيننا، وارحمنا به يوم عرضنا عليك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله.