[وقفة مع سورة الزمر]
الحمد لله الذي يقبل توبة التائبين, ويمحو بفضله وعفوه وحلمه إساءة المذنبين, الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم الراحمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الأمين, صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين, وحشرنا وإياكم معهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين, أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخواني في الله! آية من كتاب الله، وكلمة عظيمة جليلة كريمة من كلام الله, وموعظة بليغة من مواعظ الله, ما وقف أمامها مذنب إلا رجع إلى ربه وتاب, ولا تفكر فيها ولا تدبر مسيء مخطئ إلا أناب, آية من الكتاب أخذت القلوب إلى رحمة الله رب الأرباب, جاءت هذه الآية بين ثنايا تلك السورة الجليلة العظيمة الكريمة التي سماها بعض العلماء رحمهم الله بسورة التوحيد والإخلاص, استفتحها الله رب العالمين ببيان نعمته ومنته على العالمين, فشهد الله أنه أنزل على رسوله ذلك الكتاب المبين, ثم انتقلت تلك الآيات بعضها تلو بعض, تقرر معالم التوحيد وتدل على عظمة الله الحميد المجيد, انتقلت تلك الآيات لكي ترسم مناهج الحنيفية وتبطل شعارات الوثنية والجاهلية, ثم ما هي إلا آيات حتى أخذت القلوب إلى الدار الآخرة فذكرت العباد بيوم المعاد, وذكرت كيف يتفرق الآباء والأولاد, وكيف يخسر الآباء أبناءهم, والأمهات بناتهن, وكيف يفرق بين العزيز وأخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, وحكمت بأن هذا الفراق هو الخسارة التي لا تطاق {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:١٥] يوم فارق الأب ابنه فراقاً لا لقاء بعده, وفارقت الأم ابنتها فراقاً لا لقاء بعده {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧].
فرجفت القلوب من خشية ربها، وأنابت إلى الله خالقها من عظيم ما وقر في مسامعها, أن يفرق بين الحبيب وحبيبه، فأصابتها خشية الله فما هي إلا آيات حتى أتتها رحمات الله, فذكر الله بأهل الجنان, وما هم فيه من الروح والريحان, ومنازل العفو والصفح والرحمة والرضوان, يوم هم في غرف مبنية بعضها فوق بعض قد أصابهم من الله ما أصابهم من الرحمة المرضية.
ثم انتقلت تلك الآيات العظيمة وأنت تعيش بينها في تلك السورة الجليلة الكريمة فذكرت تلك القلوب الغافلة، وذكرت القلوب المنتبهة, فبينت أحوال القلوب وكيف حالها تجاه أمر الله علام الغيوب, وذكرت أن هناك قلوباً رقيقة لا تحتمل كلام الله حتى تجل من خشية الله, إنها القلوب التي قُرعت بكلام الله فاقشعرت جلودها من خشية الله {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:٢٣] فما أحلى كلام الله في قلوب أولياء الله, وما أطيب تلك القلوب يوم تفتحت لكلام الله, وما أسعد تلك الجوارح يوم خشعت وسكنت وذلت لجلال الله.
ثم انتقلت تلك السورة العظيمة فضربت معالم الحنيفية، وأقامت الدلائل على العقيدة المرضية, ضربت مثل الموحدين ومثل المشركين والوثنيين في أصدق العبارات وأبين الدلائل والعظات, ثم وقفت تلك الوقفة العظيمة التي لما قرأها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رقت قلوبهم لها وأذعنت لجلالها، إنها الوقفة التي نعى الله عز وجل فيها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم إلى الملأ فأخبر أنه ميت وأنه إلى الله صائر, يوم أن نعى الله عز وجل نبي الهدى إلى الأمة والملأ فأخبر أن لا خلود وأنه سينتقل من هذا الجوار إلى جوار الله الواحد القهار.
ثم أخبر أن هذه السنة سيتبعه عليها خلائق, لا يعلمهم إلا الله ولن يستطيع أحد أن يفوتها, ولن يستطيع أحد أن ينجو منها {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] إنها الآية التي إذا قرأها المؤمن هانت عليه الدنيا وعلم أن أيامه فيها قليلة, وأن حياته فيها محدودة, وأن ساعاته معدودة, يوم يحس أن أفضل الخلق وأشرف العباد وأحبهم إلى الله قد صار إلى الله فكيف بمن سواه؟! {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] وإذا بالقلوب تتساءل: فما الذي يكون؟ وما الذي يحدث لهذا الكون؟ فأخذ الله عز وجل بمجامع القلوب إلى ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود، إلى تلك المشاهد العظيمة فعبر عنها في آية واحدة كريمة, وإذا بالقلوب تنتقل إلى مشهد من المشاهد بين يدي الله علام الغيوب, إنه المشهد الذي تطول فيه الخصومة, إنه المشهد الذي يعظم فيه السؤال والحكومة, إنه مشهد ديان يوم الدين, يوم يأتي الله لفصل القضاء، يوم يحكم الله بين العباد ويؤذن للأشهاد: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:١١١] يوم يأتي الصغير والكبير, يوم ينكشف الجليل والحقير, يوم يسأل عن الخردلة والقطمير والنقير.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:٣١] يوم يخاصم الابن أباه, وأخته وأخاه, يوم يخاصم الزوج زوجه, وصاحبته وبنيه, إنه اليوم العظيم الذي تطول فيه الخصومة بين يدي الله الجليل العظيم {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:٣١] يوم تنقطع المعاذر، وتغص الحناجر، وتخشع القلوب، وتعنت الوجوه للحي القاهر.