[الوالدان والأقارب أولى الناس أن يرحموا]
أحوج الناس إلى رحمتك أقرب الناس منك، وأولى الناس بذلك الوالدان {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:٢٣ - ٢٤].
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا دخل على أمه قال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! رحمكِ الله يا أمي كما ربيتيني صغيراً، فكانت تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! رحمك الله يا بني كما بررتني كبيرة].
فأحوج الناس إلى رحمتك الوالدان، وذلك بقضاء حوائجهما، والسعي في تفريج الكربات عنهما، وإدخال السرور عليهما، حتى قال العلماء: من الرحمة أن لا تظهر لهما ما أنت فيه من الشجى والحزن، فإذا كنت مهموماً محزوناً فعليك أن تحرص كل الحرص ألا يريا منك الحزن وألا يريا منك الألم، فإنهما يتألمان أشد من ألمك.
الرحمة بالوالدين تكون بقضاء الحوائج في الدنيا، وكثرة الدعاء لهما في الآخرة، فإذا كانا أمواتاً فإنهما أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، أن تسأل الله أن يصب عليهما شآبيب الرحمات، وأن يجعل القبور لهم رياضاً من رياض الجنات، فتلك رحمة أودعها الله في قلوب الأبناء والبنات، لو أن الإنسان سبق والديه، فمات قبلهما لتفطر القلب من الوالدين، وللهجت الألسنة صباح مساء بالترحم عليه.
ومن أحوج الناس إلى رحمتك أبناؤك وبناتك، وإدخال السرور على الأبناء والبنات واللطف بهم والتيسير لهم، وإدخال السرور عليهم من أجلِّ ما تشرى به رحمة الله، ولذلك ثبت بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قصت عليه عائشة رضي الله عنها: (أن امرأةً دخلت عليها ومعها بنتان، فاستطعمت أم المؤمنين، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرة ثم أخذت الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها، فعجبت أم المؤمنين رضي الله عنها من صنيعها، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصت عليه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبين مما صنعت؟ إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك).
الرحمة بالأبناء والبنات حسنةٌ عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن، إلا كن له ستراً من النار).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إمام الرحماء بولده صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت عنه (أنه كان يقبل الحسن والحسين، فدخل عليه الأقرع فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك).
وتوفي ابنه إبراهيم ففاضت عيناه من الدمع صلى الله عليه وسلم، فقيل: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).
فمن أراد أن يكون رحيماً فليبدأ بأولاده، وليبدأ بأهله وزوجه، فإن الرحمة بالأقربين من أعظم الحسنات، ومن أجلِّ الطاعات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
أحوج الناس إلى رحمتك إخوانك وأخواتك، فيتفقد الإنسان حوائج الإخوان والأخوات، ويدخل السرور عليهم ابتغاء رحمة الله، لا من باب القرابة، ولكن من باب الطاعة والقربة والمحبة وشراء مرضاة الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن صدقة القريب: (إنها صدقةٌ وصلة) فكل ما تقدمه لإخوانك وأخواتك وقرابتك مما تُشْتَرى به رحمة الله، كل ذلك إنما يكون عن رحمة أسكنها الله في قلبك.
وكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ولكنهم في غفلة عن حقوق الإخوان والأخوات، فقد تجد الإنسان حليماً رحيماً بالغرباء، ولكنه فظٌ غليظ بالأقرباء، فأول ما يبدأ الإنسان بقرابته من أهله وولده ووالديه، وإخوانه وأخواته، فإذا انطلق المسلم من بيته حليماً رحيماً فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، من ابتدأ ببيته فكان والداً رحيماً، وكان أخاً رحيماً، وكان كذلك ابناً رحيماً بوالديه، فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، والله تعالى ييسر لليسرى من جاهد نفسه على ذلك.