[الإخلاص شرط العبادة وأساسها]
هناك أمر هو أهم الأمور، به تطمئن القلوب وتنشرح الصدور, هو أساس الدين ووصية الله للخليقة أجمعين, هذا الأمر جعله الله قاعدة الفلاح ومنبع الخير والإصلاح, ما هدى الله قلب عبد إليه إلا سدده ووفقه, وأرشده ويسر له, هذا الأمر هو الإخلاص لله جل جلاله, فاتحة الأمور وأساس كل خير, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨].
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] أي: ليخلصوا له وليوحدوه سبحانه وتعالى.
الإخلاص الذي جعل الله فيه السعادة والنجاة والخلاص, اختار الله منا قلوبنا فلن ينظر إلى ألواننا وأحسابنا وأنسابنا ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا, من تكلم وعمل لله أسعده ووفقه وسدده وثبته, وهي وصية الله للأولين والآخرين, التي عليها مدار كل خير, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه.
أول ما ينبغي أن نتواصى به جميعاً وأن يشد بعضنا من أزر بعض فيه؛ تصفية القلوب لله جل جلاله, الداعية المخلص لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لله في قوله فتح الله له القلوب, وشرح الله له الصدور، وأصبحت كلماته ومواعظه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه كالغيث لتلك القلوب, يحيي الله عز وجل به تلك القلوب بما نظر من إخلاصه وإرادة وجهه العظيم, قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله, وإذا عمل عمل لله] وقال بعض السلف: كم من عمل قليل كثرته النية.
الإخلاص خير وبركة ورحمة وهدى, إذا نظر الله إليك وأنت تأمر واطلع على قلبك فلم يجد فيه شيئاً سواه جل جلاله, بارك في هذا الكلام, وتلقته الملائكة في صحيفة عملك؛ لكي تراه خالصاً لوجهه الكريم، في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:٩ - ١١] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:١٠] هل أرادت وجه الله، أو أرادت أي شيء سواه؟ الإخلاص هو الوصية الأولى التي لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها عبدٌ صالح, ونحتاج دائماً أن نتواصى بهذا الأمر العظيم, نحتاج دائماً أن نكون مخلصين، فبمجرد أن تخرج من بيتك تخرج وليس في قلبك إلا ابتغاء وجه الله, وبمجرد أن تقعد في عملك تقعد وليس في قلبك إلا رجاء رضا الله, وإذا تكلمت جعلت الله نصب عينيك, وإذا عملت جعلت الله نصب عينيك, فيشرح صدرك وييسر أمرك {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:٢٩] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:٤] كم فتح الله بالإخلاص من القلوب! وكم أنار به من مناهج ودروب! كل ذلك بالإخلاص, ولما أخلص الأئمة والسلف الصالح جعل الله الخير في كلامهم ومواعظهم وأوامرهم ونواهيهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بالإخلاص لوجهه الكريم.
أيها الأحبة في الله: إنه والله لشرف عظيم, أيُّ أمانة حملتموها؟ وأي مسئولية قُلدتموها؟ حينما حملتم هذه الرسالة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هذه الرسالة التي تولى الله أمرها من فوق سبع سماوات, فأمر سبحانه بالمعروف ونهى عن المنكر, فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة على الله بعد هؤلاء الرسل, ولكي تقوم عليهم الحجة وتنقطع عنهم المعذرة, تولاها الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين, كانوا حملة النور؛ اطمأنت بهم القلوب وانشرحت بهم الصدور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كانوا يأمرون بما أمر الله به, وينهون عما نهى الله عنه, فرفع الله ذكرهم وأعز شأنهم وأبقى في القلوب حبهم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أهم الأمور وأعظمها في قلوب الأخيار والصالحين, فكما أنه رسالة الكتاب والسنة التي اعتنى بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد اعتنى بها العلماء والحكماء والأخيار والصلحاء, وإذا أردت أن تنظر إلى مقام الإنسان في دين الله عز وجل ومقدار تعظيمه لله سبحانه وتعالى فانظر إليه في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأنه إذا عظم الله في قلبه عظم أمره ونهيه, فكان وجهه يتمعر لله سبحانه وتعالى إذا انتهكت حرماته, وكان لسانه ينطلق بالتذكير والموعظة والتوجيه والإرشاد والدلالة على الله سبحانه وتعالى؛ لعظيم شعوره بعظمة الله سبحانه وتعالى وعظيم حقه جل جلاله.
ولذلك وصَّى لقمان ابنه فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:١٧] فأمره أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر, فهي الرسالة السامية والمرتبة الشريفة الكاملة العالية، التي ينال الإنسان بها الفلاح، قال سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:١٠٤].
فشهد الله أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه مفلح، وإذا شهد الله لعبد أنه مفلح فهو المفلح, فلا أصدق من الله حديثاً ولا قيلاً.
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مرحوم في رحمة الله, متى ما تكلمت بما أمر الله به ومتى ما نهيت عما نهى الله عنه, فأنت تخوض في رحمة الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:٧١] أي: لما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فإني سأرحمهم, ولذلك تجد الإنسان كلما أقام حجة الله على عباده أصابته الرحمة, وجعل الله عز وجل في قلبه من الطمأنينة والثبات واليقين، ولا يزال المبلغ لرسالة الله الآمر بما أمر الله الناهي عما نهى الله عنه لا يزال له من الله معين وظهير متى ما كان مخلصاً لوجه الله سبحانه وتعالى.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من الخسارة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].
فلذلك -أيها الأحبة في الله- نحمد الله من كل قلوبنا, ونشكره على عظيم فضله علينا حينما يسر لنا وسهل لنا أن نبلغ رسالته, وأن نقيم حجته, وإنه لمن دلائل حب الله للعبد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يضع له القبول في الأرض, فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لوجه الله عز وجل، وعلم الله من قلبه أنه يريد وجهه ويريد ما عنده؛ فتح له أبواب الخير, ويسر له الدعوة، ووضع له القبول في الأرض, ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه).
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ذلك الرجل.
تصور! لو أنه نودي في السماء: إني أحب فلاناً باسمك، أليس هذا شرفاً عظيماً ومقاماً كريماً؟ قال: (فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً -باسمه- فأحبوه, فيحبه أهل السماء، قال صلى الله عليه وسلم: ثم يوضع له القبول في الأرض).