كذلك أيضاً ينبغي أن يراعي الأدب مع العلماء، ومن كمل أدبه في الطلب كمل تحصيله، ولذلك جبلت القلوب على حب من كملت أخلاقه، فإذا نظرت إلى طلاب العلم، فانظر إلى ذلك الطالب الذي تأثر في قوله وفعله فظهر ما خفي في قلبه من الحب للعلماء على لسانه وجوارحه وأركانه، والله ما أخفيت في قلبك من سريرة تريد بها رحمة الله إلا أظهرها الله في جوارحك، ولذلك من ملأ قلبه بمحبة العلماء وجدت آثار ذلك في تعامله معهم، كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه طالباً من طلاب العلم، توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنه فدعا له بالعلم فقال:(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على زيد بن ثابت عالم الكتاب الذي كان آية في العلم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي في شدة الظهيرة فينام على عتبة زيد، ينام مع علو نسبه ومكانته وشرفه، ينام على تلك العتبة لعلمه بما عند الله من الثواب والأجر، فكان زيد رحمه الله ورضي عنه يقول:[هلاَّ أيقظتني] وكان لا يوقظ عالماً من علماء الصحابة رضوان الله عليهم، ويقول:[لو شئت أن أقول للأمة التي تخدمه: أيقضيه لأيقظته] وكان ذلك من أحب ما يكون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يوقظه ولا يزعجه، فطالب العلم لا بد أن يقدم الثمن والتضحية في الأدب، وإذا رأى العالم منك خصلتين الأولى: الأدب والخلق الحميد، والثانية: صدق الرغبة، أحب أن ينفعك، وجد واجتهد على أن يبذل لك.
ومن عجائب ما ذكروا أنه نزل بدمشق عالم من علماء الحديث، فجاءه طالب علم، فرأى كثرة الناس حوله فلم يستطع الوصول إليه، فاختار ساعة السحَر وهي في جوف الليل قبل الفجر بما يقرب من ساعة، فجاءه فقرع الباب على العالم فلما خرج ذلك العالم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تعلمني مما علمك الله يرحمك الله، فما كان من ذلك العالم إلا أن أخذ الباب وصكه في وجهه بقوة، فما كان من هذا الطالب الموفق إلا أن فرش عمامته، وتلحف رداءه في شدة البرد، وانتظر خروج العالم لصلاة الفجر، فلما خرج العالم ورآه أخذه وضمه إلى صدره وقال: لقد أردت أن أختبر صدق رغبتك في العلم.
كانوا يؤذون الطلاب قبل الطلب حتى يعلموا هل هم صادقون، وأذكر بعض المشايخ الكبار رحمة الله عليهم، أنه كان إذا جاءه الطالب في أول مجلسه أغلظ عليه قليلاً، حتى ينظر هل هو صادق في إرادة العلم؟ وهل هو من أولي القوة والعزم؟ لأن العلم ثقيل والله يقول:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:٥] والثقيل لا يحمله إلا أولي العزم وأهل القوة الذين لهم صبرٌ وجلد على طاعة الله ومرضاته، فقد كانوا يختبرونهم بالقرع والتوبيخ لينظروا مدى تحملهم؛ لأنهم غداً سوف يأتيهم السفهاء والجهلاء، فإذا رأوا أمامهم من هو قوي الشكيمة صادق العزيمة، علَّموه وأعطوه من العلم مما علمهم الله، فينبغي لطالب العلم أن يظهر للعالم هاتين الخصلتين، وأفضلهما وأكرمهما: حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فضل حسن الخلق وقال: (خيركم خيركم لأهله) وقال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيءٍ أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من تقوى الله وحسن الخلق) نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التقوى، وأن يرزقنا كمال الخلق إنه ولي ذلك والقادر عليه.