[الإنكار باللسان]
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يستطع فبلسانه) ويقول بعض العلماء: التغيير باللسان مقدم على التغيير باليد ولهم عليه دليل صحيح، وهو حديث عائشة رضي الله عنها, وحاصل هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من غزوة تبوك -على قولٍ عند بعض أهل الحديث- قدم عليها فوجد القرام هذا وفيه صورة فقال لها أولاً: (أميطي عنا قرامك هذا) هذا أول ما قال لها، فكأن عائشة -كما يختار جمع من العلماء- نسيت أن تزيله, فدخل عليه الصلاة والسلام فإذا بالقرام في وجهه فأمسك القرام وهتكه.
يقول العلماء: أول ما يبتدئ الإنسان بالتوجيه؛ لأن كون الشخص بنفسه يزيل المنكر هذا نوع من الإيمان والتسليم, ولذلك يتربى الناس على التسليم, بمعنى: أن كونه بنفسه يأخذ الشيء ويكسره، كما أنه هو الذي أوجده هو الذي يكسره، هذا من أرفع الدرجات، ولذلك يقول العلماء: من أهم ما يكون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقناع الناس، بأن هذا منكر فيجتنبوه وهذا معروف فيفعلوه ويأتوه.
ولذلك الحرص على إقناع الشخص بكونه منكراً أولى, وقد فعل الصحابة ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو طلحة لـ أنس: انظر، فخرج فنظر فإذا بمناد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس! إن الله حرم الخمر.
فأمره أن يريقها فجرت بها سكك المدينة.
من الذي أراق الخمر؟ الناس لما اقتنعوا، (لما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:٩١] قال عمر: انتهينا انتهينا).
ثم يقول العلماء: انظر إلى أسلوب القرآن! ما قال الله: انتهوا، بل قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:٩١] وهذا كما يقول المفسرون: من أرفع أساليب الإقناع؛ لأن الشخص تقول له: ليتك تفعل كذا, أو هل تفعل كذا, فتحدث عنده شوقاً للامتثال, فلما نزلت هذه الآية بمجرد الانتهاء كما في صحيح مسلم صاح عمر: (انتهينا انتهينا) أي: ما لنا بعد أمرك ونهيك سبحانك وتعالى, وانتهينا أي: كففنا عن هذا الأمر.
(فليغيره بلسانه) كيف تغير بلسانك؟ الشخص الذي أمامك يتعاطى المنكر وفيه جانبان: جانب داخلي الذي هو الباطن, وجانب ظاهري, الجانب الداخلي قناعته بالمنكر, والجانب الظاهري وجود المنكر, ويتعامل مع هذا المنكر, فأعظم ما يكون من التغيير أن تصل إلى سويداء قلبه, فتجتث من قلبه الشر، (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) , فتحرص على أن تجعل في قلبه قناعةً كاملةً بحرمة هذا الشيء, وتعتمد على أساليب من أهمها أسلوبان: أسلوب الترغيب، وأسلوب التنفير, وكلاهما أسلوب القرآن.
ولذلك تجد الله عز وجل في كتابه ينهى عن الحرام ثم يذكر عواقبه الوخيمة في الآخرة من عذاب جهنم وسخطه وغضبه -نسأل الله السلامة والعافية-, هذا أسلوب الترهيب, وكذلك استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا ... ) , فالمقصود أن تستخدمه فتأتي -مثلاً- أمام صاحب المنكر وتتلو عليه آية من كتاب الله, وحديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتوجيه، فتأتي بالتوجيه بالأسلوب المؤثر المقنع؛ لأن الناس يختلفون, يقول العلماء: هناك آيات للترغيب وهناك آيات للترهيب, فإذا كان الذي أمامك من النوعية التي لا ينفع فيها الترغيب؛ لأن فيها قسوة وفيها نوعاً من الكبرياء بالباطل، تقرعه بآيات الزجر وآيات التخويف؛ لأنك إذا جئته بآيات الترغيب كان ضعفاً, ولذلك ينبغي أن تظهر عزة الدين وترفع من المعروف الذي تأمر به وتحقر من المنكر الذي تنهى عنه, فتذكره بقوارع التنزيل, وتذكره بالجنة والنار, وتقول له: يا أخي خف الله عز وجل أمامك قبر أمامك حساب أمامك صراط أمامك جنة ونار، وتذكر له من الكلام الذي يدل على الترهيب، فلما تأتي هذه الكلمات المضيئة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تصادف قلباً فارغاً وإن كان فيه الشر, لكن الله سبحانه وتعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:١٨] , فتبدأ بالتقريع، فمثل هؤلاء النوعية التي تتعاطى المنكر بنوع من الكبرياء والعزة يصلح لها أسلوب التوبيخ والتقريع، ويكون الكسر للمنكر في عينه وفي وجهه أبلغ في إهانته وزجره, وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك حينما حصلت قضية عمرو بن أمية الضمري فذهب إلى بني النضير؛ وكانوا يهوداً بالمدينة، وبينه وبينهم عهد, فجاء يريد أن يأخذ منهم المعونة على الدية, فجاءهم عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكر وأهل كيد، فقالوا له: انتظر تحت الحائط حتى نعطيك الدية, وأرسلوا سفيهاً من سفهائهم لكي يرمي عليه حجراً فيقتله صلوات الله وسلامه عليه, فلما جلس جاء جبريل بالوحي وأخبره بما يكيدونه به، فانطلق عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ومعه أصحابه لا يدرون ما الخبر, ثم أرسل إليهم: أن اخرجوا من دياركم, قالوا: نخرج, فكتب عبد الله بن أبي بن سلول قائلاً لهم: لا تخرجوا أنا أنصركم على عادته من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر:١١] خدعةً, فبقوا, فلما بقوا آذن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فخرج إليهم بالقوة فحاصرهم خمسة عشر يوماً من ربيع الأول -صلوات الله وسلامه عليه- فلما حاصرهم قالوا: نخرج, قال: أما الآن فلا.
انظروا كيف عزة الإسلام! جاءهم أولاً فقال لهم: اخرجوا, ثم قال بعد أن رفضوا: أما الآن فلا, الآن أنتم تحت قهرنا وقوتنا ولا تخرجون إلا وأنتم صاغرون, فأذلهم عليه الصلاة والسلام وكانت ما أفاء الله على رسوله وكانت نعمة من الله عز وجل على نبيه حتى خير أن يضع أمواله وغنائمه حيث شاء, فكانت كسراً لشوكة الأعداء بقوة.
كذلك أهل الباطل والغيظ، لما تأتيه باللين في مقام لا يصح فيه اللين، فإنه ليس من الحكمة في شيء قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:١٢٥] فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه, فتبدأ بتغييره باللسان بأسلوب التقريع والتوبيخ إذا كان الذي أمامك عنده أنفة وله سوابق وجرائم وهو إنسان مستفحل في الشر, فهذا يقرع ويوبخ ويؤنب، ويبين له عاقبته وما ينتظره من العاقبة الوخيمة في الآخرة.
أما لو كان إنساناً لا سابقة له, إنسان خُدع وغُرر به وما إن دخلت عليه حتى أصابته الذلة, وترى من دلائل الحال والقرائن أنه نادم وأنه متأثر فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) قال العلماء: ذوي الهيئات هم الذين لم تعرف لهم سوابق, يكون من أسرة طيبة وبيت طيب ولكن قرناء السوء زجوا به إلى هذه العاقبة الوخيمة, فلتقف على مثل هذا وتقول له: يا فلان أين أبوك؟ أنت ابن من؟ حتى لو كانت الذكرى بالأمور الدنيوية فتذكره ببيته وبشرفه, تقول: ماذا جنيت؟ وتجعله يؤنب نفسه, هذا من التغيير باللسان.
فالتركيز على قضية الترغيب والترهيب لاجتثاث الشر من القلوب؛ لأنه ليس من تغيير المنكر أن نأتي ونكسر المنكر، والرجل مقتنع قناعة كاملة بأن هذا معروف؛ لأنك إذا كسرته اليوم سيعيده في الغد، وإذا كان لا يفعله في الظاهر فسيفعله في الباطن, وإذا كان يتقيك في العلانية فإنه لا يتقيك في السر, ولكن إذا اجتثثت الشر من قلبه وذكرته بالتغيير باللسان وأصبح عنده القناعة، فإنه يغير ظاهراً وباطناً، وسراً وعلانية كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن أكمل التغيير باللسان, استخدام أسلوب الترغيب والترهيب, وينبغي على من يستخدم هذا الأسلوب أن يراعي الحال ومناسبة الحال, فمن صلح فيه الترغيب لا يعطى أسلوب الترهيب؛ لأن الذي تجد عنده انكساراً هو شخص رأيته وقع في جريمته ثم وجدت عنده الانكسار الكامل, فلو جئت تزيد عليه بالآيات ربما يصل به الخوف إلى درجة اليأس من رحمة الله, وهذا أمر مهم جداً.
ولذلك تجد بعض العصاة والمذنبين -وهذا يمر علينا من فتاوى الناس وأسئلتهم- يشعرك أنه لا رحمة تنتظره عند الله جل جلاله -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا لأنه أوغل في جانب الخوف, ولذلك يقول العلماء: في عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا بد من الخوف والرجاء, فلا يغلب جانب الخوف ولا يغلب جانب الرجاء, لأنهما جناحان, جناحا السلامة كما يقول بعض الأئمة، وينبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتبه, وهذا صريح الكتاب كما قال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:١٦] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] , لا نستطيع أن نأتي بالتخويف فقط، ولا نأتي أيضاً بسعة رحمة الله، ونلين مع الناس حتى تذهب هيبة الإسلام والعمل والمحتسب, لا بد من الوسطية, فإن كان المقام يقتضي الترغيب رغبنا, وإن كان المقام يقتضي الترهيب رهبنا.