كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، فلما رأوا آثار القرآن في حياتهم ووجدوا لذته في دنياهم، غرسوه في قلوب الناس، فكان إمامهم عبد الله بن عباس إذا وقف يتلو كتاب الله، تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وظهرت دلائل الحق من حسن بيانه، ووقف في عرفة يوم أن ولاه علي رضي الله عنه الحج عامه، فتلا آيات البقرة ففسرها آيةً آية، يقول القائل:[لو رأته الفرس والديلم لأسلمت لله من جماله وبيانه].
هذا الصحابي الجليل، لما رأى عظمة التنزيل ومآله عند الله العظيم الجليل، أحب كتاب الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلق بكلام الله، وقال في نفسه: إن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتاب ربي موجود، وإن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلام الله غير مفقود، فعاش مع هذا القرآن فالتزم باب زيد بن ثابت وكان نعم الصحابي القانت الثابت، فكان رضي الله عنه وأرضاه يسأله عن القرآن آيةً آية، ويوقفه أمامه حرفاً حرفاً، فرضي الله عنه وأرضاه، حتى كان يبكر من الفجر إلى بيت ذلك العالم الجليل من الصحابة.
وهنا وقفة لأهل الخير والرضا، وشباب الصحوة وطاعة الله جل وعلا، أن تُشحذ الهمم إلى العلم بالقرآن، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه مع صغر سنه لم ير أن بينه وبين القرآن حاجزاً، فأقبل على زيد وتعلم منه ذلك العلم النافع، وكان يبكر قبل صلاة الفجر على باب زيد، يحب أن يراه الله وهو يضرب الخطا لكي يتعلم كلام الله، كان يغدو من الفجر، فينام على عتبة زيد بن ثابت، حتى إذا خرج إلى صلاة الفجر أيقظه، وكان رضي الله عنه وأرضاه يخرج في شديد الظهر والهاجرة، لكي يسأل الصحابي عن آيةٍ من كتاب الله، يقول رضي الله عنه:[إن كنت لأجلس على باب الرجل أسأله عن آيةٍ من كتاب الله وهو نائم، وإن كنت لآتي الرجل في بيته وهو نائم في شدة الهاجرة، فأجلس على بيته والريح تسفني -يعني السموم والريح- لو أمرتهم أن يوقظوه لأيقظوه، أنتظر خروجه فأسأله] فكان كتاب الله في قلبه عظيماً، وكان يعظم من كان يعرف كلام الله.
وهنا وقفة لكل من يريد أن يكون من جيل القرآن، أن يغرس في قلبه حب كلام الرحمن، وأن يكون مع هذا الكلام في جميع ساعاته وحركاته وسكناته.
فلما توفي زيد بن ثابت إمامه وشيخه، وقف أمام ذلك العالم الجليل، الذي فقه التنزيل فدمعت عيناه، وبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال:[ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم، فلينظر! هكذا يقبض الله العلم](إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء) فبكى رضي الله عنه، وأبكى الناس لفراق شيخه في كتاب الله، فلما بلغ مبلغه من العلم تصدر رضي الله عنه وأرضاه، فشعت أنوار التنزيل من كلامه، وظهرت حجج القرآن من بيانه، فكان رضي الله عنه علماً من أعلام المسلمين، وإماماً من أئمة الدين، غرس في نفوس طلابه من التابعين فقه الكتاب المبين، فكان مجاهد بن جبر ومكحول وطاووس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رحمة الله على الجميع، تلاميذه يذكرون به، فتصدر رضي الله عنه لتربية الأجيال على كلام الله عز وجل، وما خرج من هذه الدار إلا وقد غرس كلام الله عز وجل في نفوس أصحابه.
وهكذا تكون أجيال القرآن يغارون على تعلمه، ويحرصون على تعلمه، ويحرصون على تفهمه وتطبيقه وتعليمه، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منه أوفر حظِ ونصيب.