[كيفية التأثر بالقرآن]
السؤال
هناك أكثر من سائل يسأل عن قراءة القرآن، وأنهم لا يجدون التأثر الذي وجده السلف الصالح، فكيف يعيش مع القرآن، ويصبح له ذلك الأثر الكبير، ويكون لهم منطلقاً إلى تغيير حياتهم إلى ما هو أفضل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أما التأثر بالقرآن، ووجود نفعه في القلوب، وحياة الإنسان، فهذه منحة من الله عز وجل يختص بها من شاء.
القرآن له رجال، وله صفوة اختارهم الله عز وجل له، فهم أهل القرآن العالمون به العاملون بأحكامه وشرائعه -جعلنا الله وإياكم منهم- والله ما دخلت محبة القرآن إلى قلب عبد فأعقبها تطبيق هذا القرآن إلا كان أشد الناس تأثراً به، وإن من دلائل السعادة والإيمان الحقة محبة القرآن، ومحبة سماعه وتلاوته والحياة، والعيش معه، هذا هو الذي سعد به السلف الصالح، ونالوا به مراتب الفوز والكرامة، وأذاقهم الله به حلاوة الإيمان، فعاشوا عيشة طيبة هنيئة راضية، ما بين ذكر وشكر، وكلام مستقيم، وفعل قويم، كل ذلك حينما كانوا مع القرآن.
من كان مع القرآن كان الله معه، ومن عاش مع القرآن أحيا الله قلبه بالقرآن، وما حييت القلوب بشيء مثل القرآن، ولا استنارت ولا أشرقت بشيء مثل كلام الرحمن، وإذا لم تسعد القلوب للقرآن فلأي شيء ترتاح، وإذا لم تهتد بالقرآن فبأي شيء تهتدي؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:١٨٥] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:٦] أي حديث هذا؟ القرآن الذي هو الآية العظمى، والهداية الكبرى، والمنحة الجليلة من الله، هدىً وأي هدى.
هذا القرآن ما عرفنا قدره؛ ولذلك لما عرف قدره السلف الصالح رحمهم الله اكتحلوا السهر، فباتوا مع القرآن، وظمئوا الهواجر وهم يتلون القرآن، ما وجدوا فترة ولا ضعفاً ولا خوراً مع القرآن، وكان الواحد منهم من مجلس قرآن إلى مجلس قرآن، يجلس في بيته يتلو القرآن، حتى إذا خرج للناس قضى حوائجه فإن وجد الغفلة من الناس تلا القرآن، بل أعرف أخياراً إلى عهد قريب والله يمشون في السوق وألسنتهم تلهج بتلاوة القرآن.
هذا القرآن من عاش معه حيي مع السعادة، وعاش والله الحياة الطيبة المباركة، جرب وحافظ على تلاوة القرآن، فتالي القرآن لا يعرف قسوة القلب، وإحياء الليل بالقرآن يلين القلب، وإن كان في البداية وجد قسوة القلب بعد فترة والله يلين قلبه، هذا القرآن لا يمكن أن تبقى معه قسوة، قال تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٣] يعني: القرآن {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:٢٣] فلذلك إذا عشت وحييت مع القرآن والله أصبت الحياة الطيبة.
ولما كانت هذه الحياة عزيزة، فهي لا تكون حياة طيبة إلا إذا استجمعت صفة واحدة، يعني: لن تكون حياتك مع القرآن كاملة إلا استجمعت صفة وعقب هذه الصفة أثر، ما هي الصفة؟ الصفة: التأثر بالقرآن، أن تقف مع كل آية من القرآن بل تقف مع كل كلمة، تقف معه لكي تتدبره وتتأمله كما نزل رحمك الله، وهذا الكتاب ما نزل من فوق سبع سماوات إلا لكي نقف معه المواقف الصادقة، ونتدبره ونتأمله ونجد فيه الذكرى، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:٢٩].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:٢٩] هذا أول شيء التدبر، ثم بعد ذلك {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:٢٩] فهناك ثلاث مراحل: اقرأ القرآن، وأثناء القراءة تدبر، ثم بعد التدبر يأتيك أثر يسمى الذكرى، فإذا جاءت الذكرى جاء لها أثر ثالث وهو العمل الصالح سواء كان قولاً أو فعلاً، خذ سورة من القرآن اقرأها، ثم قف مع الكلمة الأولى والثانية، والسطر الأول والثاني موقف المتأمل المتدبر، سرعان ما تمضي لحظات يسيرة تلامس فيها هذه الآيات القليلة شغاف قلبك، وتلامس هذه الحروف والكلمات فؤادك وروحك، وإذا بك بعد هذا التدبر تحس أنك وجدت أثراً.
ولذلك تجد بعض الأخيار الصالحين إذا تلا القرآن أو الآية أحياناً لا يستطيع أن يكملها، يقف فيتأثر فما يستطيع أن يكمل، وبعضهم تغرورق عينه من الدمع، وبعضهم يبكي ويجهش بالبكاء، هذا من أثر التدبر، والتدبر يكون أثناء القراءة أو السماع قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:٨٣] ثم قال تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:٨٣] (من) سببية كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:٢٥] أي: بسبب خطيئاتهم، فقوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:٨٣] معناها: أن إفاضة العين بالدمع كانت بسبب معرفة الحق.
إذاً: إذا وجد السماع مع المعرفة التي تكون عن طريق التدبر والتأمل تأتي الذكرى، وترى بعدها عجباً عجاباً، إذا دخلت الآية إلى القلب واستقرت فيه لا بد لها من أثر، وكونك تشكي أنك لا تجد الأثر فإن هذا أمر لا بد له من أسباب، لكن ما من إنسان يقرأ ويجمع هذه الثلاثة الأمور: القراءة مع التدبر، والتهيؤ للذكرى، للعمل، إلا وجد أثر القرآن، ما من آية من كتاب الله تقرأها وتتدبر فيها، وتدخل إلى سويداء قلبك والله لن تصنع ذلك إلا بقيت في قلبك ما شاء الله أن تبقى.
ولذلك العبد الصالح يقرأ القرآن، وإذا به ينجو من السيئات بالقرآن، وكيف هذا؟ مثلاً: قرأ سورة، خذ من أيسر السور مثلاً سورة القارعة: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:١ - ١١] قرأ هذه السورة الكريمة، فعلم نهاية الدنيا، وانتهاء كل شيء فيها، من جبال تسير كالعهن المنفوش، ثم علم أن العاقبة ميزان حسنات أو سيئات، ثقل بحسنات أو ثقل بسيئات، ثم رأى منظرين: عيشة راضية، ونار حامية؛ فلما علم هذا دخلت قلبه.
هذه الآيات لما تدخل القلب ثم تأتي المعصية لن تجد مع هذه الآيات مكاناً في القلب، وإذا جاء داعي الهوى وهذه الآيات في القلب لن يجد مكاناً معها، فسرعان ما تجده يمتنع من محارم وحدود الله بآيات من القرآن، بعض الأخيار تأتيه الشهوة، ويأتيه موقف من المواقف العصيبة التي يمتحن بها في دينه، والله تردعه آية واحدة من كتاب الله عز وجل، تردعه آية في ذكر الجنة، أو النار، أو العرض، أو الحساب، أو الميزان قرأ هذه الآية منذ أمد، فجاءته الشهوة وتزينت له وتجملت، فتحركت هذه الشهوة ودخلت إلى القلب، فلما دخلت القلب جاءت تحرك الآيات الموجودة فيه، فجاءه ذكر تلك الآيات، فتذكر آيات الصحف: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:٧ - ٩] فإذا بلذة الآخرة تنسيه لذة الدنيا، وإذا بعظة الآخرة تصرفه عن عظة الدنيا، وإذا بالإنسان قد اتجه إلى الله عز وجل.
فالمقصود: لماذا نقرأ ولا نجد الأثر؟! لأننا ما جمعنا هذه الثلاث الصفات: قراءة مع التدبر، مع الأثر الذي يعقب التدبر.
إذاً: ما هو العلاج؟ العلاج إذا نظرت إلى أي آية في كتاب الله انظر إليها نظرة المتفكر والمتدبر، انظر إليها وأنت تحس أن الله يخاطبك بها، المشكلة أننا نقرأ القرآن ونظن أنه يخاطب به غيرنا، السلف الصالح رحمهم الله يقرءون القرآن بقلوب ترى كأنها هي التي تعاتب، وكأنها هي التي فعلت وأسرفت، يقرأ صفات في النكال والعذاب يحس أنه من أصحابها، ويقرأ صفات في النعيم والخير يحس أنه ليس من أهلها؛ وهذا من احتقار النفس في جنب الله.
ولكننا على العكس: نقرأ آيات في ذكر النار فنحملها على غيرنا، ونقرأ آيات في ذكر الجنان فنعد أننا قد قطعت لنا تلك المنازل، فرق كبير، قال بعض السلف: [والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددت نفسي من الراسخين في النفاق] ليس منافقاً فقط، بل من الراسخين في النفاق، هكذا كانت حياة السلف رحمهم الله، كانوا يقرءون القرآن بقلوب حية تتفاعل مع هذا الكتاب المبارك.
فاقرأ وتأمل، واعرض نفسك وعملك وأقولك وأفعالك على القرآن، سرعان ما تعيش معه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حلاوته وتلاوته، وأن يجعلنا وإياكم من المهتدين المرحومين به، والله تعالى أعلم.