ما قولكم فيمن يخاف الموت خوفاً شديداً جعله ذلك يعطل مصالحه ومصالح أبنائه، فلا يرى أن يقوم ببناء بيتاً لأهله مثلاً، فكيف تحثه على ترك هذا الغلو؟
الجواب
تحثه على ذلك بأن تذكر له أن الله يعظم أجره ويجزل ثوابه يوم أحسن لورثته، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) دين الإسلام دين عمل وليس دين عبادة فحسب، بل جعل العمل من العبادة:(حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته يكون له بها أجر)(قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر) فالإسلام دين عمل وليس دين خمول وكسل، فإذا كان ذكر الموت يمنع الإنسان من الوقوع في محارم الله، فهذا شيء طيب، أما أن يمنعه من أن يصلح حاله وحال أولاده ويحسن إليهم من بعد موته فهذا غير صحيح، وقد يعرضهم ذلك للفتن وللوقوع في الحرام، وفي أمور لا تحمد عقباها، فينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب من الآن، ولا حرج عليه أن يشتري الأرض ثم يبني عليها الدار وأن يحسن لأولاده، فهذا مما يثاب ويؤجر عليه بإذن الله عز وجل.
ومن حسنات الإسلام أنه لا يجعلنا فقط نقتصر على الرهبنة، والخوف نوعان: خوف فيه التزام بحدود الله عز وجل وهو الخوف المحمود، وأشار إليه شيخ الإسلام بكلمة جميلة لطيفة فقال رحمة الله عليه: أصل الخوف ما كف عن حدود الله، وما زاد فلا يضرك تركه.
لماذا؟ لأن الزائد قد يوصل الإنسان -والعياذ بالله- إلى درجة القنوط، الخوف لا يراد لذاته إنما يراد لمعانٍ وهي المعاملة مع الله عز وجل، فيعينك على كثرة الخير وقلة الشر، فإذا حملك على هذا فإنه لا يضرك ما زاد عنه.
النوع الثاني من الخوف: الخوف الذي يخرج به إلى ترك المباحات، يقول مثلاً: لا آكل الطعام اللذيذ، لماذا؟ يقول: أخاف أن الله يحاسبني عليه، هذا -كما قال العلماء- الورع الكاذب.
سئل الإمام أحمد عن رجل يقول:(لا آكل الفالوذج، فقال الإمام أحمد: ولماذا؟ قالوا: لأنه يقول: لا أستطيع أن أؤدي شكرها، قال: قبّحه الله، أويستطيع أن يؤدي شكر الماء البارد في اليوم الصائف؟) يعني: لو كان هذا المبدأ لما أكلنا ولا شربنا، فهذا هو الورع الكاذب، في بعض الأحيان الشيطان إذا يئس من العبد في باب الشر جاءه من باب الخير.
فالإنسان يكون خوفه منضبطاً بالعلم وبأصول الشرع، ولا بد من جناحي السلامة: الخوف والرجاء، فيكون الإنسان بين الخوف والرجاء، ولذلك وصف الله أهل الجنة بهما قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزمر:٩] فجمع بين الخوف وبين الرجاء، وقال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة:١٦] فهذا يدل على أنه لا بد من الجمع بين الخوف والرجاء، وهما كما يقول العلماء: جناحي السلامة.
والسلف الصالح شبهاهما بالجناحين؛ لأنه لا يستطيع الطائر أن يطير بجناح واحد، فإذا كان الإنسان لا يعبد الله إلا بالخوف فقط فلا يأمن على نفسه أن يقنط من رحمة الله وأن ييأس من روح الله والعياذ بالله، وإذا عبد الله بالرجاء فقط وترك الخوف فإنه لا يأمن من الاستخفاف بحق الله والوقوع في محارمه، نسأل الله السلامة والعافية.