وأول وقفة -مع الإيمان والثبات على الإيمان- مع امرأة آمنت بربها، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، امرأة لا كالنساء، كاملةٌ، مطهرةًٌ، مختارةٌ من الله لنبيه، امرأة أحبها الله وأحبت الله، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، إنها خديجة بنت خويلد التي أحبها الله عز وجل، وأحبها نبيه صلى الله عليه وسلم، أحبها الله حتى نزل جبريل الأمين يحمل سلام الله عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن جبريل قال:(يا رسول الله! هذه خديجة قد جاءتك بإناء فيه إدام -أو شراب، أو طعام- فأقرئها من الله السلام ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) إنها خديجة مثال الإيمان، واليقين بالرحمن، إنها خديجة التي ثبت الله عز وجل بها أحب القلوب إليه، إنها خديجة التي واست رسول الله صلى الله عليه وسلم بمالها، وواسته بفؤادها إذ شاركته أحزانه، وشاطرته آماله وآلامه، ما جاءها خائفاً إلا أمنته بعد الله، ولا جاءها مهموماً محزوناً إلا بددت همومه وأحزانه بإذن الله، زوجة ونعم الزوجة! مؤمنة بالله عز وجل حقيقة الإيمان، ما إن جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخوف قد استولى عليه حتى قالت له:[كلا والله، لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق] فيا لله من امرأة! أتعجب من إيمانها وثباتها إذ هي تعاني وتقاسي عذابها في الله! أم تعجب من حكمتها وبيانها إذ ثبتت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم! مضت هذه الطيبة الطاهرة إلى رحمة الله، ومضت إلى عفوه وغفرانه، ولكنها سطرت لأجيال المؤمنات ديواناً من المجد ائتست به صالحات وأي صالحات، مشى على دربها الفاضل نساءٌ مؤمنات قد بعن الدنيا واشترين الآخرة.
إن مضت خديجة الأمس فإن خديجة اليوم باقية، فكم من نساءٍ صالحات طاهرات نسمع عنهن في هذا الزمان قصصاً تعيد لنا ذكرى خديجة! كم من زوجة صالحة الآن اهتدى زوجها على يدها، عرفته سبيل المساجد، وأقامته مع كل راكع وساجد، وحببته أن يكون مع الخير العابد.
إن ذهبت خديجة فقد أبقت لنا أمثالها، وإن ذهبت خديجة فقد أبقت لنا أشباهها، وإن واست خديجة الأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين والمال والنفس، فـ خديجة اليوم تواسي زوجها وهو داعية إلى الله، فتضحي بمالها في سبيل الدعوة إلى الله، وتضحي بأوقاتها كي تعينه على مرضاة الله.
كم في زماننا من أشباه لتلك المرأة المؤمنة؟ قال الأب لابنته يوماً من الأيام: إن ابن عمك يريد الزواج منكِ.
قالت له: يا أبتاه أتأمرني بذلك؟ قال: نعم.
قالت: سمعاً وطاعة.
وشاء الله ذلك الزواج، وما إن مضت أيامٌ يسيرة حتى تبدى لها ذلك الزوج وإذا به شيطانٌ مريد، من رحمة ربه شقي طريد، فما إن بلغ الخبر بذلك القلب الذي يعامل الله، وذلك الفؤاد الذي يرجو رحمة الله، حتى احتسبت المعونة من الله وقالت: لقد بررت أبي بزواجي منه، والله يعينني على هدايته.
فيا ألله من امرأة صالحة تفجرت ينابيع الحكمة على لسانها، فأخذت بمجامع ذلك الزوج إلى طاعة الله! وأخذت بمجامعه إلى محبة الله، وهدته إلى رضوان الله وطاعته، فما ذكر فضلها يوماً من الأيام إلا بكى اعترافاً بجميلها، وإقراراً بفضلها.
إنها خديجة اليوم التي تحتسب عند الله عز وجل في التأسي بتلك الطيبة الطاهرة، إنها خديجة اليوم مهما رأت من زوجها إعراضاً عن الله؛ كان قلبها أكمل ما يكون يقيناً بالله، وكان جنانها أقوى ما يكون ثباتاً على طاعة الله، إنها خديجة اليوم التي نطمع أن نرى أمثالها وأن نسمع ذكراها، فنضَّر الله وجهها، وكثَّر في المسلمين سوادها.