[صدق اللجوء إلى الله سبب في الهداية]
السؤال
من ظن أن السعادة في إشباع الرغبات والشهوات والإعراض عن طاعة الله، ثم علم بعد ذلك أن السعادة في غير ما سبق، فكيف يترك هذه المعاصي، مع أنه شُقي بها دهراً طويلاً وهو يظن أنه يحسن العمل؟
الجواب
أخي في الله! إذا أراد الله لعبده خيراً رزقه قوة الرجاء والإيمان به سبحانه وتعالى، فالشيطان قد قعد لك على طريق التوبة، يقول لك: لم تتوب؟ ولم تترك هذه المعاصي ما دمت قد ألفتها؟ ولكن والله ثم والله -وأقسم موقناً بالله- أنك إن صدقت مع الله صدقك الله، وأنك إن تركت شيئاً لله أبدلك الله خيراً منه.
فمن ابتلي بالشهوات والفتن والملهيات ثم أعرض عنها لله وفي الله فإن الله لا يخيبه، وسيعوضه إيماناً يجد حلاوته في قلبه وحاله، وسيجد عاقبة ما فعل من الخير.
أخي في الله! لا تيأس ولا تظن أن هذه المعاصي والفتن تمنعك وتحول بينك وبين الله، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) فالرجاء واليقين في الله سبحانه وتعالى، كم من أناس نعلمهم وقد أسرفوا في المعاصي ولكن الله منّ عليهم في آخر اللحظات بقلوب أقبلت بالصدق واليقين، فبدل الله أحوالهم، فلا إله إلا الله كيف بدلت سيئاتهم حسنات! وكيف تأذن الله بغفران الخطيئات وزيادة في الدرجات {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:٤١] لا تعجز، وكن قوي الإيمان بالله جل جلاله.
وإني أعرف رجلاً كنت معه وهو في السبعين من عمره، حدثني وهو صائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه كان مبتلىً بشرب الخمر -أعاذنا الله وإياكم- منذ كان عمره الخامسة عشرة حتى بلغ الأربعين، فدخل ذات يومٍ على طبيب فوجد أن الخمر قد استنفذ جسمه والعياذ بالله، فقال له الطبيب: يا فلان! لا دواء لك وذلك بسبب الذي كنت فيه، فوقف المريض عاجزاً حائراً، قال: فلما قال لي ذلك كأنني انتبهت من المنام، وقلت له: ليس عندك علاج؟ قال: نعم، ليس لك علاج عندي، قال: فنزلت من ساعتي تلك، وأعلنتها توبةً لله، وصليت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت إلى بيتي فلبست إحرامي تائباً إلى الله، ومضيت إلى مكة -وكان بينه وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام- قال: فلما وصلت إليها في ظلمة الليل قبل السحر أديت العمرة، ولما فرغت منها التجأت إلى الله وبكيت وتضرعت، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تقبض روحي وأنا تائب، فشعرت في نفسي أن شيئاً يحركني إلى أن أشرب من ماء زمزم، فنزلت إلى زمزم، فأخذت دلواً ومن شدة الظمأ شربته كاملاً، فلما شربت هذا الدلو إذا ببطني تتقلب، فشعرت بالقيء -أكرمكم الله- فانطلقت فلم أشعر إلا عند باب إبراهيم وقد قذفت ما في بطني وإذا بها -أكرمكم الله- قطعٌ من الدم مظلمة، فلما قذفتها شعرت براحة عظيمة، وشعرت بعظمة الله جل جلاله، وأيقنت أنه من التجأ إلى الله لا يخيب، وأن الله بيده من الخير ما لم يخطر على بال.
يقول: فرجعت مرةً ثانية في يقينٍ أكثر وإيمانٍ أعظم، فدعوت وابتهلت وسألت الله وبكيت بين يديه، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تتوفاني على هذه التوبة، قال: فإذا بنفسي تحدثني بزمزم مرةً ثانية، فشربت الدلو مرةً ثانية، وحصل لي ما حصل في المرة الأولى، فانطلقت حتى بلغت الباب فقذفت -أكرمكم الله- فإذا بالذي قذفته أهون من الأول، ثم رجعت مرةً ثالثة، وإذا بي بإيمانٍ ويقينٍ أكثر -لأنه نظر إلى عظمة الله وجلاله وقدرته سبحانه وتعالى- دعوت وابتهلت، فإذا بي أشعر أنني أحب الشرب، فنزلت وشربت من زمزم مرة ثالثة فتحرك بي كما في الأولى، فقذفت فإذا به ماء أصفر.
قال: فشعرت براحةٍ عجيبة ما شعرت بها منذُ أن بلغت، ثم رجعت ودعوت الله سبحانه وتعالى وابتهلت إليه فألقى الله عليَّ السكينة فنمت وما استيقظت إلا على أذان الفجر، فقلت: والله لا أفارق هذا البيت ثلاثة أيام، فما زال يبكي، ويسأل الله العفو والمغفرة، ويشرب من ماء زمزم.
قال: ثم رجعت إلى المدينة بعدها، فلما استقر بي المقام أتيت إلى الطبيب المداوي، فوقفت عليه، فنظر في وجهي فإذا به قد استنار -والحمد لله- من الهداية، فلما جاء كشف عليّ اضطربت يده وهو لا يصدق ما يرى، ثم التفت إلي وقال لي: يا عبد الله! إن الله قد أنعم عليك بشيء عظيم، يعني: هذا الشيء الذي أنت فيه -بعرف الأطباء- لا يمكن أن يصل إليه طبيب، ولكن الله هو الذي تولاك، ثم استقام هذا الرجل من ذلك الوقت لمدة ثلاثين عاماً، يقول لي: وأنا أحدثك اليوم صائمٌ وأنتظر من الله حسن الخاتمة.
وقد توفي رحمه الله على خير.
منذُ الخامسة عشرة إلى الأربعين وهو يشرب الخمر، وأنتم تعرفون فتنة الخمر وبلاءها، ومع ذلك تاب إلى الله فتاب الله عليه، لا إله إلا الله! والله أعلم كم من أبواب رحمةٍ فتحها على المعذبين، الله أعلم كم من أبواب برٍ وإحسان أغدقها على عباده الموقنين، أيقن بالله وثق بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيك فلن يخيب الله رجاءك.
من هذا الذي وقف بباب الله فطرده عن بابه؟ ثق ثقة تامة أنك عندما تعلنها توبة إلى الله، فإن الله يحب منك ذلك، ووالله ما دعوت ربك ورجوته، وملأت قلبك بحبه إلا أراك الله السعادة في الدنيا والآخرة، فقد قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً) ويفرح بتوبة التائبين سبحانه، رغم أن العبد مذنب ومخطئ ومسيء، ولكن الله يفرح بتوبته! ما أرحمه وما أكرمه سبحانه لا إله إلا هو! يفرح بتوبة التائبين، والتوبة لنا فلن نبلغ ضره فنضره أو نبلغ نفعه فننفعه (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونسألك أن تتوب علينا وعلى عبدك هذا وعلى جميع عبادك المؤمنين.
اللهم تب علينا في التائبين، وانشر لنا من رحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر لنا إنك أنت خير الغافرين.
والله تعالى أعلم.