ومن شواهد عهد النبوة لما جاء أهل النفاق فأورثوا الشحناء والبغضاء بين الأوس والخزرج وقال الأوسي: يا للأوس! وقال الخزرجي: يا للخزرج! فثاروا إلى السلاح حينما تذاكروا يوم بعاث، هذه الضغينة التي كانت بينهم حركها ذلك اليهودي قاتله الله وعامله بما يستحق، وهو شاس بن قيس اليهودي لما حركها وبلغت تلك الصيحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يجر رداءه لكي يتدارك أخوة الإسلام، اشتغل بثوبه يجر رداءه من أجل أن يدرك هذه الأمة الطاهرة، فجاءهم وهم يريدون أن يقتتلوا، يا للأوس! وياللخزرج! كل منهم ينادي أخاه للفتنة والضغينة، فشاء الله عز وجل أنه نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس فاجتمعوا، فرقى المنبر وتلا آيات من الكتاب عليه الصلاة والسلام في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}[آل عمران:١٠٠ - ١٠١].
سبحان الله! أساليب ربانية تحرك هذه القلوب وتدل على أن بيننا صفاء ومودة عظيمة.
صفاء ومودة بماذا؟ بعقيدة الإيمان التي هي أقدس شيء وجد على وجه الأرض:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}[آل عمران:١٠١] استفهام إنكاري وأسلوب رباني رفيع في معالجة الداء: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ِوَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:١٠١] ثم بين لهم أهمية الأخوة، ثم أوجد لهم الأمل:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}[آل عمران:١٠١] كأنه يقول لهم: ارجعوا واعتصموا بالله واتركوا هذا الخلاف: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:١٠١] ثم يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً}[آل عمران:١٠٢ - ١٠٣].
يقول بعض العلماء: إن ذكر الاعتصام بعد الإسلام والوصية بالإسلام يدل على أن من آكد الفرائض بعد التوحيد والإيمان تحقيق الأخوة في الله، هذه من آكد الفرائض بعد الإيمان، ولذلك قال الله:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢] هذه العقيدة والأساس والأصل: ((وَاعْتَصِمُوا)) [آل عمران: ١٠٣] هذه ثمار العقيدة وفروع العقيدة ولازم العقيدة.
يقول الوالد رحمة الله عليه في تفسيرها: يمتن بجمع القلوب قبل النجاة من النار قال الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران: ١٠٣] ولذلك السياق له تأثير، يعني: ذكر الشيء قبل الشيء يدل على أهميته؛ لأن العناية بالبداية تدل على فضل الشيء المبتدأ به.
فالمقصود: قيل إنه أراد أن يبين خطر الفرقة، وهذه الآيات ما إن تلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أقوام قد غلت قلوبهم من الأحقاد والذكريات الأليمة من ذلك الخبيث الذي أشعل نار الفتنة، ما إن تلاها وإذا بتلك العيون تدمع من خشية الله، قاموا يتباكون ويعانق بعضهم بعضاً من شدة أثر القرآن في قلوبهم، ما استطاع أحد منهم فرموا السلاح وأقبلوا يتعانقون ويبكون من شدة أثر القرآن في قلوبهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، نعم والله القوم! نعم والله العبد الذي ما إن تبلغه الآية من كتاب الله، أو تبلغه الوصية من وصايا الله إلا وجدته أسبق الناس إلى فعلها والعمل بها! جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.