٢/ ولم يختلف الصحابة في جواز المسح على الجوربين، و اختلف فيه من بعدهم (١).
(١) قال إسحاق بن راهويه: (مضت السُنَّة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعدهم من التابعين في المسح على الجوربين، لا اختلاف بينهم في ذلك) نقله ابن المنذر في الأوسط (١/ ٤٦٣)، وقال ابن قدامة في المغني (١/ ٢١٥): (الصحابة -رضي الله عنهم-، مسحوا على الجوارب، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً)، قال أبوداود في سننه (١/ ٤١): (ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس). وروي عن غيرهم -رضي الله عنهم- حتى روي عن أكثر من ثلاثة عشر صحابياً، قال ابن القيم في تهذيب السنن (١/ ١٨٧ - ١٨٩): (فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً، والعمدة في الجواز على هؤلاء -رضي الله عنهم- … ولا نعرف في الصحابة مخالفاً لمن سمّينا)، وقد خالف في هذه المسألة جمهور الفقهاء الأربعة؛ فاشترطوا لجواز المسح على الجورب أن يكون مجلداً أو منعلاً، حتى قال المرداوي في الإنصاف (١/ ١٧٠): (وجواز المسح على الجورب من المفردات)، قال ابن حزم في المحلى (١/ ٣٢٤): (والعجب أن الحنفيين والمالكيين والشافعيين يشنعون ويعظمون مخالفة الصاحب إذا وافق تقليدهم وهم قد خالفوا ههنا أحد عشر صاحباً، لا مخالف لهم من الصحابة ممن يجيز المسح)، وسبب مخالفتهم كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (٢١/ ١٨٦): (والثلاثة منعوا المسح على الجوربين وعلى العمامة، فعلم أن هذا الباب مما هابه كثير من السلف والخلف حيث كان الغسل هو الفرض الظاهر المعلوم؛ فصاروا يجوزون المسح حيث يظهر ظهوراً لا حيلة فيه ولا يطردون فيه قياساً صحيحاً ولا يتمسكون بظاهر النص المبيح)، ولعل المخالفة ليست في جواز المسح على الجورب، وإنما في تحقيق معنى الجورب الذي مسح عليه الصحابة؛ ولذلك اشترطوا شروطاً للمسح عليه ولم يمنعوه مطلقاً، فاشترط الحنفية لجواز المسح على الجوربين أن يكونا مجلّدين-أي: جعل الجلد على أعلاه وأسفله-، أو منعّلين-أي: جعل على أسفله جلدة-، واشترط أبو يوسف ومحمد بن الحسن كونهما ثخينين لايشفّان، ولم يشترطا التجليد أو التنعيل، واشترط المالكية أن يكون الجورب مجلداً في ظاهره وباطنه، واشترط الشافعي أن يكون منعّلاً بما يمكن متابعة المشي معه بجلد أو غيره، وأن يكون صفيقاً في مواضع الوضوء منه ولا يشف. انظر: بدائع الصنائع (١/ ١٠)، مختصر خليل ص (٢٣)، الأم (١/ ٤٩)، واشترط الحنابلة أن يكون صفيقاً، فإن كان خفيفاً يصف القدم أو يسقط عند المشي لم يجز المسح عليه، وهذا (بلا نزاع)، كما قال المرداوي في الإنصاف (١/ ١٨٢)، وهذا فقط هو الشرط عند الصاحبين (أبي يوسف، ومحمد بن الحسن)، ويكاد يكون ذلك محل اتفاق، حتى قال الكاساني في بدائع الصنائع (١/ ١٠): (فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع) وقد يكون هذا إجماع مذهبي؛ لأن معنى لايشفهما الماء أي: لا يخترقهما ولا ينفذ إلى الجلد؛ كما هو الحال في بيوت الشعر؛ ولذا قال النووي في المجموع (١/ ٥٠٠): (وحكى أصحابنا عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- جواز المسح على الجورب، وإن كان رقيقاً، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود)، وإمكان المشي على الجورب يتحقق فيه كونه ثخيناً، كما قال النووي أيضاً (١/ ٥٠١): (أما ما لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته فلا يجوز المسح عليه بلا خلاف)، وقال ابن تيمية في شرح العمدة (١/ ٢٣٩): (وإن كان رقيقاً يتخرق في اليومين أو الثلاثة أو لا يثبت بنفسه لم يمسح عليه؛ لأن في مثله لا يمشى فيه عادة، ولا يحتاج إلى المسح عليه)، أما اشتراط التجليد أو التنعيل؛ فكما قال ابن حزم في المحلى (١/ ٣٢٤): (اشتراط التجليد خطأ لا معنى له، لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس ولا صاحب)، وكما قال ابن تيمية في الفتاوى (٢١/ ٢١٤): (يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواءٌ كانت مجلّدة، أو لم تكن، في أصح قولي العلماء)، والله أعلم.