[أحكام اللقيط]
يقول: (وهو مسلم إن وجد في بلد يكثر فيها المسلمون) فيحكم بإسلامه، وذلك لأن الأصل في الأولاد أنهم ولدوا على الفطرة، فإن كانت البلاد كلها أهل ذمة، فإنه يلحق بهم، وإن كان الأكثرون هم المسلمون أو فيها مسلمون كثير حكمنا بأنه مسلم، ثم يحكم بأنه حر ولا يجوز أن يحكم برقه؛ لأن الأصل في المسلم الحرية.
قوله: (وإن أقر به من يمكن كونه منه ألحق به) إذا جاء إنسان وقال: هذا ولدي، فإن كان ذلك ممكناً فإنه يحلق به حرصاً على اتصال نسبه، وحرصاً على ألا يكون مجهول النسب، وإن ادعى أنه مملوكه، وأنه ولد من أمته، وكانت هناك دلائل، فإنه يعتبر مملوكاً له، ولو كان ابن زنا.
وإذا كانت أمة مملوكة لإنسان وزنت، فولدها يكون رقيقاً لسيدها؛ لأن الولد يلحق أمه بالحرية والرق، وإذا تداعى فيه أكثر من واحد، وكل واحد يقول: هذا ابني، قدم لمن معه بينة، فالذي معه شهود يشهدون أنه ابنه فإنه يقدم، وإذا لم يكن مع أحدهما بينة، عرض على القافة، فمن ألحقته القافة به لحق به.
والقافة: هم الذين يعرفون الشبه، وهناك أناس عندهم قوة نظر وقوة فكر، إذا رأوا الأثر علموا أن هذا أثر فلان، أو أنه قريب منه أو أنه قريب من فلان.
وكذلك أيضاً: إذا رأوا إنساناً قالوا: قريب أو أخ لفلان بن فلان، فهؤلاء القافة، لا شك أنه يعتبر قولهم إذا جربت إصابتهم، وقد دل على ذلك، قصة مجزز المدلجي؛ فإنه مر على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة وقد غطيا رءوسهما وقد بدت أرجلهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسر بذلك! وكان بنو مدلج فيهم قبيلة يعرفون الشبه والأثر، وكان أسامة بن زيد أسود البشرة وأبوه زيد بن حارثة أبيض مشرب بحمرة، فطعن بعض الناس في نسبه، وقالوا: ليس ابناً له، فعند ذلك لما رآهما مجزز وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، سر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أسامة حبه وابن حبه؛ ليرد بذلك طعن الذين يطعنون في نسبه.
إذا عرض هذا اللقيط على القافة، وعرض الرجلان اللذان يدعيان أنه ولدهما، فمن ألحقته القافة به لحق به، فإن اختلف القافة عرض على واحد، فألحق بأحدهما، ثم عرض على الثاني فألحقه بالآخر، ففي هذه الحال، قيل: إنه يخير بينهما، وقيل: يقرع بينهما.
وعلى كل حال، فهذا دليل على عناية الشرع بمصالح المسلمين، ثم هذا اللقيط الذي التقط وأحسن إليه يحكم بأنه مسلم ولا يجوز أن يلحق بالكفار إذا كان في بلاده مسلمون، ولو كان المسلمون قليلاً، وكذلك أيضاً: يعتنى به فيربى تربية صالحة حسنة، بمعنى: أنه يربى على الإسلام، وعلى معرفة دين الإسلام، ولو كانت البلاد فيها نصارى أو يهود أو أهل شرك أو نحو ذلك، حتى ينشأ على الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ لأن الله تعالى فطر الناس على الإسلام؛ ولأن: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه) .
فالأصل أنه مولود على الفطرة، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) ، ومعنى: حنفاء.
يعني: على الفطرة الحنيفية.
فهكذا يربى الأولاد على الفطرة التي فطروا عليها -أي: على الإسلام- وكذلك أيضاً: في هذه الأزمنة يتساءل كثير من الذين يربونهم؛ وذلك لأنه إذا نشأ هذا الطفل الذي هو لقيط، فلابد أن يلحق نسبه بإنسان؛ لأنه إذا لم يعرف من أبوه ولا من أسرته وقبيلته، فقد يستضيق نفسه، وقد يتعقد في حياته، ولا يدري ما هو؛ فلذلك يخترعون اسماً، يعني: اسماً مناسباً ينطبق عليه ابن فلان بن فلان، إذا كان مثلاً: يصلح أن ينسب إليه، كأن يقال: ابن إبراهيم ولو كان إبراهيم بعيداً، وابن نوح ولو كان بعيداً أو ما أشبه ذلك.
ويمكن أن ينسب إلى أبٍ قريب، فإذا كان أهل البلد محصورون، ويمكن أن يكون من قبيلة كذا: من قبيلة يربوع أو من قبيلة حنظلة، أو من الرباب من تيم، وهكذا حتى لا يتعقد، بل يجعل له أب وأسرة ونحو ذلك، وعلى المربي تربيته بالتعليم، ويعلم تعاليم الإسلام، ويعلم ما يفقه به، وما يعرف به كيف يعبد ربه، ويربى على أركان الإسلام، وعلى تعاليم تلك الأركان، ويعلم الثلاثة الأصول وما يتصل بها.
فهذا ونحوه، دليل على عناية الشرع وما يتميز به عن سائر الأديان إذ لا يعتنون بهؤلاء اللقطاء بل يلقونهم، ولا يهتمون بهم، وتميز الإسلام بحرصه على ألا يكون هناك من يضيع نسبه، أو من يهمل فيتضرر به، إذا كان الإسلام يأمر بالإحسان إلى البهائم، وذكرنا قبل قليل: أنه لا يجوز إهمال البهائم حتى تموت مع القدرة على إنقاذها، فكيف ببني الإنسان؟!