إذا وصلوا إلى عرفة واستقروا فيها فإنهم يكثرون من الدعاء والذكر والتكبير والتلبية ونحو ذلك، فإذا دخل وقت الظهر بعد زوال الشمس صلوا الظهر والعصر جمعاً وقصراً في وقت الظهر جمع تقديم، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جمع في وقت الظهر ليطول وقت الوقوف، وذلك لأنه قبل أن يصلي خطب خطبة طويلة، علم الناس فيها الأحكام والشرائع، وبين لهم كثيراً من الأحكام، فلأجل ذلك يسن أن يخطب إمامهم وأن يعلمهم الأحكام التي تتعلق بالمناسك، وكذلك الأحكام التي تتعلق بالأوامر والنواهي مما قد يخفى عليهم، فإنه عليه الصلاة والسلام وضع ربا الجاهلية، قال:(كل ربا الجاهلية موضوع) يعني: ساقط.
ووضع دماء الجاهلية في خطبته، وكذلك حثهم على الكثير من الأحكام، وعلمهم الحلال والحرام، فهكذا تكون الخطبة في ذلك.
ثم بعد ذلك وقف على ناقته القصواء، واستمر واقفاً عليها حتى غربت الشمس، وهو رافع يديه يدعو الله تعالى، وكان وقوفه شرق الجبل الذي يقال له:(جبل الرحمة) عند الصخرات الكبار، وقال:(وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) ، وأرسل إلى بعض الصحابة الذين كانوا في مكان بعيد، وقال لهم:(الزموا أماكنكم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم) ، فأقرهم على أماكنهم رغم أنهم بعيدون من جبل الرحمة، وذلك من باب التسهيل عليهم حتى لا يزدحموا في أماكن يضايق بعضهم بعضاً.
ويوم عرفة أفضل الأيام، يجتمع فيه الحجاج بعرفة، وكلهم في حالة واحدة، قد ارتدوا هذه الأكسية التي هي أكسية الإحرام، وقد كشف الرجال رءوسهم، ولبسوا هذا اللباس الموحد الذي هو أشبه بلباس الموتى، الذي هو إزار ورداء، وكذلك قد اتحدوا على هذا اللباس، وليس هناك فرق بين الغني والفقير، وبين الصغير والكبير، وبين الشريف والوضيع، وبين الأحمر والأسود والأبيض ونحوهم، بل كلهم على حالة واحدة، وفي موقف واحد، والحكمة في ذلك: أن يشعروا بأنهم سواسية، يجمعهم دين واحد، ويعبدون رباً واحداً، ويقصدون مقصداً واحداً وهو ثواب الله تعالى ورضاه وجنته والسلامة والنجاة من عذابه، فلا جرم أمروا بأن يكثروا من الأدعية التي تتيسر لهم، وليس شرطاً أن تكون مأثورة ومنقولة، بل يدعون بما أحبوا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم استمر يدعو رافعاً يديه، واستمر في الدعاء من الساعة الواحدة -أو قريباً منها- إلى الساعة السادسة والنصف أو السابعة وهو يدعو، فست ساعات أو نحوها وهو يدعو.
وهل نقل لنا دعاؤه كله في الست الساعات؟ ما نقل لنا، مما دل على أنه أباح لكل منهم أن يدعو لنفسه، وأن يدعو بما تيسر له في هذه الحالة، فيدعو الله تعالى ويسأله خيري الدنيا والآخرة، وكذلك يكثر من التلبية -أي: يكرر التلبية- حيناً بعد حين، وكذلك يكثر من التكبير، والمأثور:(الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) إلخ، وهكذا -أيضاً- يتلو الآيات التي فيها تمجيد الله تعالى، والثناء عليه، وذكر صفاته، مثل آخر سورة الحشر، وأول سورة الحديد، وكذلك آية الكرسي، والآيتان من آخر سورة البقرة، ونحو ذلك، ويكثر من الأدعية التي في القرآن، ويرددها، ويكثر -أيضاً- مما يحفظه من الأدعية المأثورة التي في السنة، كذلك -أيضاً- يرفع يديه، وذلك لأن رفع اليدين سبب من أسباب إجابة الدعاء كما في حديث سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين.
وثبت في حديث أنه صلى الله عليه وسلم (كان رافعاً يديه يدعو وخطام الناقة بيده اليمنى، فسقط منه الخطام) ، يقول الراوي:(فرأيته رافعاً يده اليسرى وقد مد يده اليمنى ليتناول الخطام) ، مما يدل على أنه استمر في رفع يديه، أي: طوال ذلك الوقوف كان رافعاً يديه، وقد عرفنا أنه من أسباب إجابة الدعاء.
كذلك -أيضاً- يكثر من التلبية؛ لأنها شعار الحج، ويكثر من التكبير وما أشبه ذلك، وفي هذه الأزمنة قد لا يتيسر لهم ركوب الدواب، وقد فاتنا أن نحج على الرواحل، ولكن حدثنا آباؤنا الذين كانوا يحجون على الإبل أن الإبل يصفونها في ذاك المكان، وأنهم من طول مقامهم يدعون ويبكون في دعائهم، وأن الإبل يسيل من أعينها الدموع -أي: تدمع في ذلك الموقف- ويشاهدون ذلك، فإما أن الله تعالى ألقى عليها الهيبة والخشوع، وإما أن هذا بسبب من الأسباب.