ربا النسيئة: هو ربا الجاهلية الذي ورد فيه الوعيد الشديد، كان أهل الجاهلية إذا كان عند أحد لإنسان دين، مثلاً عشرة آلاف، جاء إليك وقال: أعطني ديني وإلا زدت عليك فيه، وأخرتك، ويعبرون بقولهم: إما أن تعطي وإما أن تربي، إما أن تعطيني ديني الذي في ذمتك، وإما أن تربي، ما معنى تربي؟ أي: نزيد في الدين، ونزيد في الأجل، الدين عشرة آلاف، نجعلها خمسة عشر ألفاً ونؤخرك سنة، فإذا تمت السنة جاء إليك وقال: عندك لي خمسة عشر ألفاً، إما أن تعطيني إياها وإما أن أزيد وأؤخرها، فيؤخرك سنة ويجعلها مثلاً عشرين ألفاً، فإذا حلت العشرون جاء وقال: أعطني العشرين وإلا زدت فيها وأجلتك سنة، فيجعلها مثلاً ثلاثين، ويقول: أؤخرها سنة، فإذا حلت الثلاثون جاء وقال: أعطني الثلاثين وإلا زد فيها وأؤخرك، فيجعلها أربعين، وهكذا تتضاعف، وهذا معنى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}[آل عمران:١٣٠] ولما جاء الإسلام كان أناس عندهم عشرات الألوف وهي ربا، فجاء الإسلام بإبطالها فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم:(كل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ربا أضعه ربا العباس) ، فوضع الربا الذي كان العباس يتعاطاه عند كثير من المرابين، وأنزل الله تعالى قوله:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}[البقرة:٢٧٩] ، إذا كان رأس مالك عشرة آلاف ثمن السلع التي بعتها، فتقتصر عليها، والزيادات التي ضاعفتها إلى أن وصلت إلى أربعين ألفاً أو مائة ألف كل هذه أسقطها، وليس لك إلا رأس مالك.
والنساء: هو التأخير، نسأه يعني: أخره، قال تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}[التوبة:٣٧] ونسيء الجاهلية هو تأخير بعض الشهور المحرمة، وقرأ بعض القراء قول الله تعالى:(ما ننسخ من آية أو ننسئها) أي: نؤخرها.
فالنساء هو التأخير، ومعنى ذلك أنهم كانوا يقولون: نؤخرك بالمطالبة ونزيد في الدين، الدين الذي هو عشرة، ننسئه أي: نؤخره ثم نجعله زائداً عما كان عليه؛ لذلك يحرم ربا النسيئة فيما اتفق عليه في علة ربا الفضل، كمكيل بمكيل، وموزون بموزون نساءً.
وذكرنا في ربا الفضل أنه لا يجوز النساء فيما كان جنساً بجنس، إذا اتفقا في علة واحدة، فمثلاً: شعير ببر صاع بصاعين ماذا يشترط فيه؟ يشترط فيه التقابض، ولا يجوز فيه النساء، ومثلاً: كيلو لحم غنم باثنين كيلو لحم إبل يجوز، ولكن لابد فيه من التقابض، ولا يجوز فيه النساء؛ وذلك لأن العلة فيه واحدة، وهو أن هذا موزون وهذا موزون، وكذلك مثلاً إذا بيع حديد أو رصاص باللحم، ماذا يشترط فيه؟ يشترط فيه التقابض، ولا يجوز فيه النساء، ولا يجوز التفرق قبل التقابض، فيحرم ربا النسيئة إذا ما اتفق في علة ربا فضل كمكيل بمكيل، مثل: بر بشعير، ولا يجوز النساء يعني: التأخير، ويجوز صاع بصاعين في موزون بموزون، كحديد بقطن، أو حديد بلحم، أو لحم بقطن أو بصوف، لكن لا يجوز إلا يداً بيد، ولا يجوز النساء.
واستثنوا إذا كان الثمن أحد النقدين، فعندنا أن العلة في النقد الوزن، فالريالات قديماً كانت من فضة، والجنيهات كانت من الذهب، وكانوا يتعاملون بالدراهم الفضة المضروبة، أو بالذهب الذي هو الدنانير المضروبة، ففي هذه الحال: يجوز النساء إذا كان الثمن أحد النقدين، يعني: من النقود، فيجوز مثلاً أن تشتري لحماً بدراهم غائبة، أو تشتري قطناً بدراهم غائبة، أو تشتري قطناً غائباً أو لحماً غائباً بدراهم حاضرة، وهو ما يسمى بالسلم، فلو منع ذلك لانسد السلم في الموزونات، فيجوز بيع مكيل بموزون وعكسه موزون بمكيل مطلقاً.