[استحباب إظهار الحاجة والفقر إلى الله يوم عرفة]
وفي هذا الموقف الذي هو يوم عرفة ينبغي للحجاج أن يظهروا حاجتهم وفاقتهم وفقرهم إلى الله تعالى، ويظهروا الخشوع والاستكانة والاستضعاف بين يدي ربهم رجاء أن يقبل منهم، وقد ورد في الحديث: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، ولما روى بعض الصحابة هذا الحديث سأله أحد تلامذته فقال: هذا ليس بدعاء، هذا ثناء على الله، فكيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة) ؟ فأجابه بأن الثناء يقوم مقام الدعاء، واستدل بقول الشاعر يمدح ابن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء كأنهم يستحبون أن يأتوا بهذا الدعاء أو بهذا الشعر لأن فيه استضعافاً بين يدي الله تعالى، ولو كان الشاعر وجهه إلى آدمي، فأنت إذا قلت: يا رب! لا حاجة إلى أن أذكر حاجتي، فأنت أعلم بحاجتي، وأنت أعلم بما أحتاجه وبما أطلبه، فأعطني حاجتي من غير سؤال، فأنا أثني عليك وأذكرك وأمدحك بما أنت أهله، فيكفيني أن أمدحك وأثني عليك، ويكفي ذلك لإعطائي حاجاتي وفي قضاء حوائجي التي أنا بحاجة إليها في دنياي وفي أخراي.
ويُسمع كثير منهم ينشدون أبياتاً -أيضاً- فيها شيء من التذلل والاستضعاف، مثل قول بعضهم: يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل امنن علي بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول فلا شك أن هذا موطن دعاء، وأنه الذي يباهي الله تعالى فيه بهم ملائكته، كما ورد في الحديث أن الله تعالى يقول: (يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً، ضاحين من كل فج عميق، يدعونني، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، انصرفوا مغفوراً لكم) أو كما ورد، فوصفوا أنهم شعث غبر، أي: أنهم من طول بعدهم عن التنعم والترفه صارت رءوسهم منتفشة، وصارت وجوههم مغبرة، فصاروا شعثين، فكان ذلك أقرب إلى انكسار قلوبهم وإلى رغبتهم في فضل ربهم سبحانه وتعالى.
واستطردنا هنا لأنه مما يغلط فيه كثير من الناس، ونشاهد أن الكثير في يوم عرفة كأنهم في بلادهم، يخوضون ويتكلمون فيما بينهم، ويضحكون، وليس لهم إلا أنهم عاكفون، وكأن هذا الموقف كسائر المواقف، ولا شك أن هذا خطأ، وأن الواجب عليهم أن يجعلوه يوم عبادة، لا يوم عادة، ولا يوم ضحك، ولا يوم خوض في الشيء الذي لا أهمية له ولا فائدة فيه، بل من حين يصلون صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس يشتغل كل فرد بنفسه، فيدعو بما تيسر من الأدعية، ويدعو بما يحفظه، وكتب الأدعية متوافرة والحمد لله، أعني الكتب التي فيها أدعية وأذكار، مثل الكلم الطيب لـ ابن تيمية، والوابل الصيب -أيضاً- لـ ابن القيم، والأذكار للنووي، وغيرها من الكتب التي تذكر فيها الأدعية العامة والخاصة، ومثلها -أيضاً- كتب متأخرة، وأفضلها الذكر الذي جمعه واختاره الملك عبد العزيز، ويسمى "الورد المصفى المختار" يبدأ منه بما تيسر.
ووقت الوقوف بعرفة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر، فمن جاء فوقف في أول النهار بعد الفجر صدق عليه أنه وقف بعرفة، ودليل هذا في حديث عروة بن مضرس قوله: (وقد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار) هكذا ذكر: (ساعة من ليل أو نهار) كلمة (أو نهار) تعم النهار كله، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها.
وكذلك قوله: (من ليل) تعم ليلة النحر كلها، أي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
فمن وقف في هذا كله ولو ساعة فإنه يعتبر قد وقف بعرفة.
وقد بالغ العلماء في ذلك حتى قال بعضهم: لو مر بعرفة وهو محرم ولكنه غافل لم يشعر بأنها عرفة، سار منها حتى قطعها في ليلة النحر، أو في يوم عرفة صح وقوفه بها، حتى ولو كان نائماً أو غافلاً إذا كان قد عقد الإحرام.
وهناك قول آخر: أن وقت الوقوف من الزوال، أي: بعد زوال الشمس يكون الوقوف.
وهذا القول يستدلون عليه بأنه صلى الله عليه وسلم ما وقف إلا بعد الزوال وبعدما صلى الصلاتين، وهذا القول هو الذي نصره كثير من المتأخرين، وقالوا: من وقف بعرفة في أول النهار فلا يعتد بوقوفه إذا خرج منها قبل أن تزول الشمس، ولا يكون كأنه وقف فيها، ولا يكون قد تم حجه.
ولكن لعل القول الأول هو الأولى، أن يوم عرفة كله من طلوع الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر، وأن الجميع كله وقت للوقوف؛ لما ذكرنا من حديث عروة بن مضرس وغيره.