قال المؤلف رحمه الله تعالى:[كتاب البيع وسائر المعاملات: ينعقد بمعاطاة وبإيجاب وقبول بسبعة شروط: الرضا منهما، وكون عاقد جائز التصرف، وكون مبيع مالاً وهو ما فيه منفعة مباحة، وكونه مملوكاً لبائعه أو مأذوناً له فيه، وكونه مقدوراً على تسليمه، وكونه معلوماً لهما برؤية أو صفة تكفي في السلم، وكون ثمن معلوماً، فلا يصح بما ينقطع به السعر، وإن باع مشاعاً بينه وبين غيره أو عبده وعبد غيره بغير إذن، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً صفقة واحدة صح في نصيبه وعبده والخل بقسطه، ولمشتر الخيار.
ولا يصح بلا حاجة بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، وتصح سائر العقود، ولا بيع عصير عنب لمتخذه خمراً، ولا سلاح في فتنة، ولا عبد مسلم لكافر لا يعتق عليه، وحرم ولم يصح بيعه على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه] .
علماء هذه الأمة اعتنوا بالعلوم الشرعية وأولوها اهتمامهم، وبينوا أن الشرع الشريف شامل لكل ما يحتاج إليه من أمور الدين ومن أمور الدنيا، وأنه ليس خاصاً بالعبادات، بل يدخل في ذلك المعاملات، ويدخل في ذلك العقود، ويدخل في ذلك الجنايات وما أشبهها، فليس هناك شيء يحتاج إليه إلا والشرع الشريف قد بينه ووضحه.
ثم إن الأولين كانوا يجمعون علم العقائد مع علم الأحكام؛ وذلك لأن العقائد تعتبر هي أساس علم العبادات، ولا تصح العبادات إلا إذا صحت العقائد التي هي التوحيد القولي والتوحيد العلمي، كما فعل البخاري حيث قدم كتاب العلم وكتاب الإيمان قبل كتاب الأحكام من الطهارة وما بعدها، وكذلك فعل مسلم حيث قدم كتاب الإيمان، وكذلك ابن ماجة حيث قدم -أيضاً- كتاب الاعتقاد أو الإيمان.
ثم إن كثيراً من العلماء أفردوا كتاب العقائد والتوحيد، وجعلوه في كتب خاصة؛ وذلك لأهميته؛ ولأن الخلاف فيه قد يخرج من الملة، فألفوا فيه مؤلفات خاصة مثل كتاب السنة للإمام أحمد، والسنة لابنه عبد الله، والتوحيد لـ ابن خزيمة، والتوحيد لـ ابن مندة، والسنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للخلال، والإيمان لـ ابن أبي شيبة، والإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام، والإيمان لـ ابن مندة، والشريعة للآجري وأشباهها.
ولما أفردوا كتب العقائد بقي من الشريعة نوعان: نوع سموه الأحكام، ونوع سموه الآداب، فأما الآداب فإنها آداب المسلم فيما يتعامل به مع إخوانه، وفيما يتعامل به مع جيرانه، وما أشبه ذلك، وهذا النوع مستحسن عقلاً، ووارد شرعاً، ومع ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يحبذون العمل به، ويمتدحون أهله؛ فلذلك أفرد هذا النوع في مؤلفات خاصة، مثل الأدب المفرد للإمام البخاري، والآداب للبيهقي، وأدب الدنيا والدين للماوردي، والآداب الشرعية لـ ابن مفلح وما أشبهها، يتكلمون فيها عن الفضائل: كالصدق وحسن الخلق وما يتصل به، وأضداد ذلك كذم الكذب، وذم سوء الخلق، وكذلك مدح الكرم، وذم البخل، ومدح الأمانة وذم الخيانة، وما أشبه ذلك.
فمنهم من يكون معتمده الأحاديث كما فعل النووي في رياض الصالحين، وكذلك المنذري في الترغيب والترهيب، ومنهم من يتعدى للآثار والأشعار وما أشبهها كما فعل ابن حبان في روضة العقلاء، وكل هذا لا شك أنه علم مفيد، وأن التأدب به يفيد من تعلمه وتخلق به، ولكنه لا يضلل بتركه، ولا يخرج من الملة، وإن كان يمدح به في التزكية، ويقدح ضده في العدالة، وترد به الشهادة وما أشبه ذلك، فجعلوا هذا العلم خاصاً في مؤلفات خاصة، وأدرجه بعضهم في المؤلفات العامة، فـ البخاري جعل في صحيحه كتاب الأدب، وكذلك مسلم، وكذلك أبو داود والترمذي ونحوهم، وأفرد هذا النوع بكتب خاصة، وما ذاك إلا لأهميته ولاختلاف الآراء فيه، وما بقي إلا الأحكام التي يتعلق بها الحكم من صحة أو فساد، وسموا هذا القسم بعلم الأحكام، أو بعلم الفقه، وهو ما ألف فيه في المذاهب الأربعة وغيرها، وأكثر العلماء من التأليف فيه في كل مذهب، وفي المذهب الحنبلي أول من ألف في الأبواب الخرقي صاحب المختصر، والمؤلفون قبله كانوا يعتمدون على أشياء خاصة، كالذين كتبوا مسائل الإمام أحمد، حيث قسموها أو بوبوها، ولكنهم أضافوا إلى الأحكام غيرها.