نصب القضاة فرض كفاية، أي: يكفي في البلد قاض واحد إذا كان يقوم بفصل الخصومات، وإن عجز ضم إليه ثانياً وربما ثالثاً أو أكثر من ذلك ولو عشرة أو عشرين إذا كانت البلد مترامية الأطراف.
وهكذا أيضاً إذا كثرت الخصومات وكثرت المنازعات، فإن على ولي الأمر أن ينصب في كل قطر قاضياً، وهذا فرض كفاية كالإمامة التي هي الخلافة، فنصب ملك يتولى أمور المسلمين من أمور الكفاية، والإمام الذي هو الملك مسئول عن نصب القضاة، فعليه أن ينصب في كل إقليم قاضياً، أي: في كل قطر وفي كل جهة ينصب قاضياً إذا كان كافياً، فإن لم يكف زيد بقدر الكفاية.
(ويختار أفضل من يجد علماً وورعاً) : وذلك لأن القاضي يتولى أمور الناس ويسمع أقوالهم، فلابد أن يكون عالماً، أما إذا كان جاهلاً فإنه لا يعرف الحكم، ولا يدري ما يحكم به، فيكون بذلك غير قائم بما أوجب الله، والعالم هو: العالم بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وبالأحكام وبالآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في أمور القضاء وما إلى ذلك.
وكذلك يتصف بالورع، فيكون تاركاً للمشتبهات، بحيث إنه يتورع عن أن يظلم أحداً، وإذا لم يكن ورعاً خشي أن يميل مع هذا لصداقته، ومع هذا لقرابته، ومع هذا لمعاملته، فيظلم الناس بغير موجب، ويظلم الناس للناس، يعني: يظلم هذا لأجل هذا ولا مصلحة له هو إذا لم يكن ورعاً، فلابد أن يكون من أهل الورع حتى يحمله ورعه على أن يحكم بالعدل.
(ويوصيه الوالي بالتقوى وتحري العدل) ، والتقوى كلمة جامعة يدخل فيها فعل الأوامر وترك الزواجر، فعل الخيرات وترك المنكرات، وهي مشتقة من التوقي، وهو أن يجعل بينه وبين الحرام وقاية، فيقول: عليك بتقوى الله، أي: الخوف منه ومن عقوبته، ويقول أيضاً كما في الحديث:(اتق دعوة المظلوم) ، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، يعني: توقها فلا تظلم أحداً لنفسك ولا لغيرك، قاله لـ معاذ عندما أرسله إلى اليمن داعياً وجابياً وقاضياً وهادياً، أرسله بأربع وظائف، فأرسله للدعوة إلى الله، فقال:(فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله) ، وأرسله جابياً الزكاة أي: جامعاً للزكوات ونحوها قال له: (إياك وكرائم أموالهم) ، وأرسله قاضياً وسأله:(كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله) إلى آخره، وأرسله هادياً يعني: معلماً؛ وذلك لأنه من أعلم الصحابة، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:(أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، فلذلك أوصاه بالتقوى.
وكذلك يوصي الوالي القاضي أن يعدل بين الخصوم، ولا يظلم أحداً، قال الله تعالى:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:٥٨] .