ذكر الفقهاء القضاء في آخر كتاب الفقه، وذكروا الشهادة والإقرار؛ لأنها التي يعتمد عليها القاضي؛ ولأن الغالب أن الإنسان إذا تمت عليه النعمة، بأن حصل على المال، وحصل على النكاح، فلا يؤمن أن يتعدى على غيره، وأن يغلبه الطمع في حق الغائب؛ ولذا تكثر الخصومات والمرافعات، فتجد عند القضاة عدة قضايا؛ وذلك من آثار الاعتداء، ومن آثار الطمع، ومن آثار الظلم، ولو أن كلاً اقتصر على حقه لاستراح القضاة ونحوهم، وهكذا لو أن الإنسان تورع عن الشيء المشتبه وتركه ولم يطالب به عندما يكون الحق الذي يدعيه ليس شيئاً واضحاً؛ إذاً لقلت الخصومات ولقلت القضايا.
ولما كانت الخصومات واقعية، وكانت المرافعات والمنازعات منتشرة في كل البلاد غالباً، وكان هناك اعتداءات ومظالم وأخذ للحقوق بغير حق؛ احتيج إلى نصب القضاة ليحكموا بين الناس.
وقد كان من الأنبياء قضاة، مثل: داود، قال الله تعالى في سورة ص:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:٢٦](بين الناس بالحق) يعني: عندما يتخاصمون، جعله الله خليفة في الأرض وأمره أن يحكم بين الناس.
وكذلك أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكم حتى بين اليهود، وخيره في ذلك القضاء:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[المائدة:٤٢] ثم قال: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ}[المائدة:٤٩] فأمره الله أن يحكم بينهم بالعدل أي: بالقسط، وأمر الله الحكام عموماً بالعدل في قوله تعالى في سورة النساء:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:٥٨] وفي سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}[النحل:٩٠] أي: بالمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه وأخذ المظلمة من الظالم، والانتصار للمظلوم ونصره على من ظلمه.
ونصر الظالم بنصيحته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه وتحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه) أي: تأخذ على يديه وتمنعه من أن يأخذ ما لا يستحقه، وتمنعه من الاعتداء عليه، وتخبره بأن ما أخذه من حق مسلم وهو لا يستحقه فإنه يؤخذ من حسناته يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم:(لتؤدن المظالم حتى ينتصر للشاة الجماء من الشاة القرناء) ، تؤدى المظالم حتى أن الشاة من الغنم إذا كانت جماء ليس لها قرون، ونطحتها التي لها قرون؛ فلابد أن الله تعالى يأخذ حق هذه من هذه، وإذا كان هذا بين البهائم مع أنها لا تكليف عليها، فبطريق الأولى الإنسان المكلف الذي هو بالغ وعاقل، ومع ذلك من الناس من يأخذ حق غيره فيعتدي على ما ليس له ويظلم الناس؛ ولذلك قال الله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الشورى:٤٢] السبيل، يعني: الحجة عليهم، فمنهم من يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، والذي يحملهم على هذا البغي ضعف إيمانهم؛ ولو كانوا مؤمنين حقاً لحجزهم إيمانهم عن الاعتداء على حق مسلم بغير حق، وقد يحملهم على البغي السرف وحب المال والطمع في الاستكثار، ولا شك أن هذا مما يحمل كثيراً من الناس على أن يعتدي على حق أخيه فيأخذه بغير حق، فيكون بذلك ظالماً ومسيئاً في أخذ ما لا يستحقه.