[مواقيت الحج]
الحج له مواقيت زمانية ومواقيت مكانية، فالزمانية ذكرها الله تعالى إجمالاً بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:١٩٧] ، وكأنها كانت معروفة ومعلومة عند العرب قبل الإسلام، واتفقوا على أنها شوال، وذو القعدة، واختلفوا في ذي الحجة، فقيل: وذو الحجة كله.
وقيل: العشر الأول منه، والذين قالوا: ذو الحجة قالوا: إنه يجوز إيقاع أعمال الحج في آخره، ولأن الله ذكرها بالجمع (أشهر) ولم يقل: شهران.
وأكثر الفقهاء على أنها شهران وعشرة أيام، ومعنى كونها (أشهره) أي: لا يصح الإحرام به إلا فيها، وإن كان قد أجاز بعضهم الإحرام قبلها ولكن مع الكراهة كما ذكرنا.
أما المواقيت المكانية فقد روى ابن عمر أو ابن عباس حديثاً فيه توقيت الأماكن، فوُقِّت لأهل المدينة ذو الحليفة، ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن، هذه هي المواقيت التي ذكرت في الأحاديث.
فذو الحليفة قريب من المدينة، وبينه وبين المسجد النبوي ستة أميال، وهو الآن قد دخل في المدينة، فقد وصل إليه البنيان والعمران، ولكنه متميز يعرف بمسجد الإحرام، ويعرف بذي الحليفة، ثم لما كثر الرافضة في المدينة سموه أبيار علي، وادعوا أن علياً قاتل الجن في هذا المكان، وقد أنكر ذلك شيخ الإسلام وقال: تسميته بأبيار علي كذب، ولم يقاتل علي أحداً من الجن، فيسمونه أبيار علي، وبين الحليفة وبين المدينة عشر مراحل، وفي ذلك الوقت كانت عشرة أيام على الإبل، والآن قد قربت فهي أقل من أربعمائة كيلو مترٍ، فكانت مع الطريق القديم الذي يمر ببدر وجدة ورابغ كانت قريباً من أربعمائة كيلو مترٍ ثم قصرت مع الطريق الجديد.
والجحفة وقتها لأهل الشام وأهل مصر والمغرب، والمغرب يعني إفريقيا كلها، يأتون عن طريق البحر أو يأتون عن طريق البر ويمرون بالمدينة فيحرمون من الجحفة، وكانت تسمى قديماً (مهيعة) ، وكانت قرية قديمة ثم صار فيها وباء وحمى، فهجرت وخربت وصار الناس يحرمون قبلها من رابغ، ورابغ أيضاً بلدة قديمة ذكرها الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) وذكر أن الناس يحرمون من رابغ، وفي هذه الأزمنة عمرت الحكومة -أيدها الله- مسجداً في الجحفة، وسهلت له طريقاً معبداً، فمن أراد أن يحرم من الميقات الحقيقي فإنه يجد طريقاً بعدما يتجاوز رابغ ويصل إلى الجحفة وهناك مسجد مهيأ فيه كل ما يحتاجه المحرم، كما أن في ذي الحليفة مسجداً كبيراً مهيأ بالمغاسل ونحوها.
وأهل اليمن ميقاتهم يلملم، وتسمى الآن (السعدية) ، وفيها أيضاً مسجد كبير، وفيها مراحيض وحمامات ومغتسلات، وليس حوله قرى -أي: حول ذلك المكان- إلا قليل سكنوا لأجل المصالح الخاصة.
ولأهل نجد قرن، ويسمى (قرن المنازل) أو (قرن الثعالب) ، وأصله جبال صغيرة مستطيلة ممتدة شمالاً وجنوباً، مرتفعة عن الأرض قليلاً، وهي دون الجبال الكبيرة الشاهقة، وبينها وادٍ ويمرُّ من دونها أو على حدها، وتسمى الآن: (السيل الكبير) ، وقد تسمى أيضاً (قرن المنازل) .
ثم في حدود عام اثنين وثمانين فتح طريق من الطائف إلى مكة مع الجبل الذي يعرف بكراء، وصار أهل الطائف ومن مر معهم يمرون مع ذلك المكان، فأين يحرمون؟ لا يمكن أن يمروا إلى الميقات الذي هو السيل، فسألوا ووجدوا ما يسمى الآن بـ (وادي محرم) وهو أعلى قرن المنازل، فصدرت الفتوى بأنه ميقاتهم، وعمر هناك مسجد كبير، وكان ابن لادن قد عمر مسجداً صغيراً ثم عمرت الحكومة مسجداً كبيراً في وادي محرم، وكذلك أيضاً في وادي السيل وهو أشهرها، فالحاصل أن هذه خمسة مساجد: مسجد في ذي الحليفة، ومسجد في الجحفة، ومسجد في يلملم، ومسجد في وادي محرم، ومسجد في السيل، وهذه هي المواقيت التي يمر بها الناس والتي طرقها معبدة.
أما ذات عرق فلا يمر بها الطريق، وكان أهل العراق وأهل المشرق -أي: المشرق كله الهند والسند وما وراء النهر- كانوا يمرون في طريقهم على إيران وخراسان والعراق وما إلى ذلك، ويأتون من طريق العراق، ويصعب عليهم أن يمروا بميقات أهل نجد الذي هو قرن المنازل، فلما صعب عليهم سألوا عمر وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً وإنه جور عن طريقنا، فقال لهم عمر: (انظروا حذوها من طريقكم) فوقت لهم ذات عرق، فكانوا يحرمون بها طوال هذه القرون، وتسمى (الضريبة) ، ولما لم تكن في تلك الجهات طريق معبدة يمر بها صاروا يأتون مع طريق الحجاز مع طريق نجد أو مع طريق المدينة، ويحرمون من قرن أو يحرمون من ذي الحليفة، ويمكن أن يمر بالضريبة هذه بعض الأهالي الذين حولها والذين لا يتمكنون من الذهاب إلى الطرق المعبدة لبعدها عنهم فيحرمون منها، ولكن ليست محرماً مشهوراً مع أنها ميقات، فطوال هذه القرون يمر بها ويحرم منها أهل المشرق كلهم، وأهل مكة يحرمون منها، وكذلك أهل جدة، وكذلك أهل الشرائع، وأهل بحرة، وأهل الهدا، وأهل الشميسي.
وأهل القرى التي حول مكة يحرمون من بيوتهم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ومن كان دون ذلك فمحله من حيث أحرم، حتى أهل مكة من مكة) .
أما أهل مكة فإنهم إن أرادوا العمرة فإنهم يخرجون ويحرمون من الحل؛ لأنه لابد في العمرة من أن يكون فيها حل وحرم، كما أن الحج لابد من أن يكون فيه حل وحرم، فأهل مكة يخرجون من حدود الحرم إلى عرفة وهي من الحل، وكذلك لابد أن يخرجوا إلى التنعيم مثلاً أو إلى عرفة ويحرمون بالعمرة، والدليل على ذلك: (أنه صلى الله عليه وسلم أرسل عائشة لتحرم من التنعيم للعمرة) .