كون الوقف على برٍّ
الشرط الثاني: أن يكون الوقف على بر، ومثل له في الحاشية: إذا وقف على المساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب.
فالقناطر: جمع قنطرة، وهي الجسر الذي يجعل على النهر حتى يعبر الناس من جانب إلى جانب، فإصلاح هذه الجسور إذا خربت فيه نفع للمسلمين، فإذا قال: أُجرة هذا الدكان تُعمر بها المساجد، فهذا وقف بر، أو قال: أجرته لإصلاح فرش هذا المسجد، أو إصلاح مكيفاته، أو إصلاح أنواره، أو إصلاح مكبراته؛ فهذا عمل بر يثاب على ذلك، وكذلك إذا وقف هذه الدكاكين، وجعل أجرتها تُفرق على مساكين هذا البلد، أو مساكين القرية الفلانية، أو أقاربه ونحوهم؛ فهذه من أعمال البر.
عرفنا ما هو الوقف على بر، فما مثال الوقف الذي ليس على بر؟ نقول الأمثلة كثيرة؛ فإذا قال: غلته مثلاً يُسرج بها هذا القبر الذي يُعبد، أو يبنى بها على هذا القبر مشهد؛ حتى يكون هناك من يعبده ومن يصلون عنده أو يدعونه، فهذا عمل إثم، ولا عبرة بمن يفعله.
فيذكرون أن الرافضة في العراق وغيره أكثر أوقافهم على كربلاء، وعلى النجف، يدّعون أن كربلاء فيها قبر الحسين، والنجف فيه قبر علي رضي الله عنهما، فيوقفون السرج والأنوار على قبريهما، وكذلك يوقفون على عمارة الطرق وسفلتتها حتى يصلوا إلى هذا المشهد وهذه المعابد، ويوقفون على تنوير الطرق، وكذلك على عمارة ما انهدم وترميمه إذا طالت مدته، بل يوقفون على من يخدم من يزور هذه المشاهد، ويقولون: أنت يا هذا خادم لهؤلاء الذين يزورون هذا المكان ويطوفون به، وأجرتك وراتبك من هذه الأوقاف، حتى يخدمهم بحلق رءوسهم، يتحللون كأنهم محرمون، أو يحلقون لحاهم، أو ما أشبه ذلك، فهل هذه الأوقاف يؤجرون عليها؟ لا.
وهكذا كثير من الذين يوقفون أوقافاً كثيرة على إسراج القبور، أو على صب الأدهان عليها، أو على ضيافة من يعتكف عندها، أو من يطوف بها، أو ما أشبه ذلك، فهذا وقف على إثم ليس وقفاً على بر، فإن الوقف هو الذي يقصد به الأجر الأخروي، وأما إذا كان هذا يقصد به الإثم فإنه يعتبر مساعدة على الإثم، فيصير الذين وقفوا متعاونين على الإثم والعدوان.
فأنواع البر كثيرة، وأنواع الموقوفات أيضاً كثيرة، كان كثير من المسلمين يحرصون على أن يكون هناك ما ينتفع به إخوانهم العاجزون، فيوقفون ما يساعدهم على قضاء حوائجهم، وقد أدركنا قبل خمسين سنة أو نحوها أنهم يوقفون أشياء تمس إليها الحاجة، حتى كان يوقف بعضهم السكين على من يذبح بها أضحية أو نحوها ولا يجد ما يذبح به، ويوقف المنجل (المحش) على من يقطع به النخيل أو السعف أو يحش به لدوابه، ويوقفون القدور على من يطبخ بها إذا احتاجوا أن يطبخوا فيها؛ لأنه ليس كل أحد كان يجد قِدراً كبيراً يطبخ به إذا نزل به ضيف، فيذهبون إلى من عنده قدر موقوف فيقولون: عند فلان ضيف، ويأتون به ليطبخ فيه.
كذلك مما كانوا يوقفونه الطاحونة التي هي الرحى، وهي عبارة عن حجرين مدورين أحدهما فوق الآخر يُطحن بها القمح، والبر، والذرة، ونحوه، يديرونها إلى أن يخرج الدقيق من حافاتها، فكانوا قديماً في القرى يقولون: يوجد في بيت فلان رحى مسبلة نذهب نطحن فيها، وهكذا، فهذه بلا شك من الأسبال التي يؤجر من يوقفها.
والأمثلة كثيرة، فكل من سبّل شيئاً فيه منفعة ولو ثوباً أو ثياباً تُلبس في أيام العيد أو في أيام الحفلات يكون له أجره على لباسه، وكانوا يسبلون الأسلحة التي يقاتل بها، فيسبل عدة سيوف أو رماح لمن يقاتل في سبيل الله، كذلك الأقواس التي يُرمى بها قديماً، وبعدما وجدت البنادق كان يُسبل كثير منهم الأسلحة الجديدة، ويجعلها وقفاً لمن يقاتل بها في سبيل الله، وكذلك الدروع التي يلبسونها ويتحصنون بها من مواقع السلاح، وكذلك المغفر الذي يجعل على الرأس، فكانوا يسبلون أمثال هذه، ويبتغون بذلك الأجر؛ لأن من جهز غازياً فقد غزا، فيبقى له أجره ما دام يُقاتل بهذا السيف، فيكون قد ساعد على قتال المشركين؛ ولأنه نفع المسلمين بها في الجهاد أو ما أشبه ذلك، فهذه كلها تُعتبر من الوقف على بر.
واستثنوا أن يقف مسلم على ذمي، أو ذمي على مسلم، فيجوز ذلك ولو لم يكن فيه بر إلا أن فيه بر القرابة، ذكروا أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان لها قريب يهودي فدعته ليُسلم، وقالت: أسلم حتى ترثني، ففكر ثم قال: لا أترك ديني حتى لا يُقال: ترك دينه لأجل هذه المصلحة، فأصر على بقائه على يهوديته، وأحبت أن تصله لأجل القرابة، فوقفت وقفاً كدار، وجعلت غلتها عليه من باب صلة الرحم، فاستدلوا بذلك على أنه يجوز الوقف على غير المسلم إذا كان لقرابة بينهما، وكذلك لو كان الواقف هو الذمي كيهودي له ذمة أو نصراني له ذمة وقف على المسلمين، فبنى لهم مسجداً، أو أصلح لهم طريقاً، أو سبل لهم مقبرة، أو سبل نعشاً يُحمل عليه الموتى، فيصح ولو كان الذي سبله يهودياً ذمياً، لكن لما كان ينتفع به قُبل الانتفاع به، ونفذ ذلك، وصار وقفاً على المسلمين.
ثم قولهم: يشترط أن ينتفع بها مع بقاء عينها، يخرج بذلك ما لا ينتفع به إلا بإتلافه، فإنه لا يصح وقفه فلو قال: وقفت كيس الأرز، لم يصح هذا وقفاً؛ لأنه يتلف بأكله، وإذا قال مثلاً: وقفت هذا الشمع على هذا المسجد، لم يصح؛ لأن الشمع أيضاً يحترق شيئاً فشيئاً؛ لأنه يوقد بالشحم أو الزيت المجمد فلا يُنتفع به إلا بإتلافه، ومثل هذا لا يُسمى وقفاً؛ لأنه يفنى باستعماله.
بخلاف ما إذا قال: وقفت هذا السراج أو هذه النجفات ونحوها، فهذه تسمى وقفاً؛ لأنه يُنتفع بها مع بقائها.
ولو كان الموقوف يتلف بالاستعمال الطويل، كالثوب يتلف بالاستعمال، فإنه يصح وقفه؛ لأنه ينتفع به مدة، وكذلك إذا وقف الأحذية على المساكين أو على المصلين أو ما أشبه ذلك، وكذلك إذا وقف بئراً فيها ماء فإنه ينتفع بمائها؛ لأن الماء ولو كان يستهلك لكنه يستخلف، حيث ينزح منها ثم يأتي ماء بدل الماء، فيصح وقف البئر ليشرب منها، ويصح وقف الأحواض التي يُصب فيها الماء، ويصح وقف الدلو الذي يُنتزع به من البئر، ويكون وقفه مساعدةً على استخراج الماء من البئر، وفي هذه الأزمنة يصح وقف الماكينة (المضخة) التي ينتزع بها الماء من البئر، ويصح الوقف على وقودها ونحوه، فإذا وقف داراً وقال: غلة هذه الدار -أجرة هذه الدار- تُصلح منها هذه الماكينة التي يجتذب بها الماء، فيُشترى لها محروقات مثلاً، وهي تسقي النخل الذي ثمرته وقف على الصائمين أو ما أشبه ذلك، فكل ذلك مما يُنتفع به مع بقاء عينه.