[السعي بين الصفا والمروة]
السعي بين الصفا والمروة فيه خلاف: هل هو ركن أو واجب، أو سنة؟ اختار الإمام أحمد في المشهور عنه أنه ركن، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلمِ: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) (كتبه) يعني: فرضه، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الذين قالوا: إنه واجب: إن الله تعالى نفى الجناح عمن لم يفعله، ونفي الجناح لا يدل على الركنية، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:١٥٨] وقد استشكل هذه الآية عروة رحمه الله، فقال لـ عائشة: ما أرى السعي واجباً؛ لأن الله قال: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه إذا تطوف بينهما، فكأن التقدير: لا حرج عليك إذا تطوفت، فلم يكن فيها أمر بالتطوف، وأجابت عائشة بقولها: لو كان ذلك كذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.
وأيضاً استدل على الركنية بأن الله تعالى جعل الصفا والمروة من شعائر الله، والشعائر هي المعالم التي لها أعمال، أي: التي لها أعمال تختص بها، فكل مشعر من المشاعر له عبادة تخصه، فإن المشاعر والشعائر تنقسم إلى أقسام، فنقول -مثلاً-: عرفة مشعر من مشاعر الحج، ولكنه ليس بحرم، ومنى ومزدلفة مشعران وحرمان، ووادي محسر حرم وليس بمشعر، وادي عُرَنَةَ ليس حرماً ولا مشعراً، فهذه المشاعر لكل مشعر منها عبادة، فمشعر عرفة له عبادة، ومشعر مزدلفة له عبادة، ومشعر منى له عبادة، فكذلك مشعر الصفا والمروة لها عبادة، وعبادتها السعي بينهما.
والحكمة في السعي إحياء ما فعلته أم إسماعيل، فإنها لما نفد عليها الماء رقت على الصفا ونظرت، ثم سعت ووصلت إلى المروة، ثم نظرت وهكذا حتى تمت سبعة أشواط، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلأجل ذلك شرع السعي بينهما سبعة أشواط) .
وأما نفي الحرج في الآية فسببه: أن المشركين كانوا قد جعلوا صنمين على الصفا والمروة، صنم على الصفا يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال لها: نائلة، فكانوا يطوفون ويتمسحون بهذين الصنمين، فلما أسلم المسلمون ظنوا أن الطواف بهما كان لأجل هذين الصنمين، فبين الله أنهما مشعران، والمشعر لابد له من عبادة، فعبادتهما هو هذا السعي، وهو عبادة لما فيه من الامتثال، ولما فيه من هذا التعب ونحوه.
هذه أدلة من يرى أن السعي ركن.
ومن يقول: السعي واجب يستدل بأن الله تعالى رفع الحرج بقوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ويقول: هذا لا يدل على الركنية، وإنما يدل على الوجوب، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو أنه واجب من الواجبات التي تجبر بدم.
ونحن نفتي من أحرم فنقول: يجب عليك ويلزمك أن تسعى، ثم إذا قدر أنه ترك السعي عجزاً أو ترك بعضه، ثم تحلل وخرج، وصعب عليه الرجوع، وفعل المحظورات؛ تساهلنا معه، وأفتيناه بأن السعي واجب، يجبر بدم؛ لمشقة الرجوع.
كثيراً ما ترد أسئلة، فيها أن أناساً سعى بعضهم أربعة أشواط ثم عجز وتحلل، أو سعى ثلاثة أشواط أو خمسة أشواط ثم عجز وتحلل ورجع إلى أهله، فمثل هذا نقول: إنه قد ألغى إحرامه، وقد فعل المحظورات، ولبس المخيط وتطيب، ووطئ أهله، وفعل كل المحظورات، فكيف نلزمه مع ذلك ونقول: ارجع لأجل أن تكمل عمرتك، وعليك فدية عن اللبس وتغطية الرأس وعن الطيب والتقليم وما أشبه ذلك؟! في ذلك شيء من المشقة، وكثيراً ما يحصل أنه يتزوج بعدما يرجع، أو تتزوج المرأة بعد أن ترجع، وربما ولد لهما أولاد، فلو قلنا: هذا عقد باطل، والأولاد ليسوا على ولادة صحيحة، ففي ذلك شيء من المشقة، فلذلك نتساهل ونقول لمن تساهل وترك السعي: اجعله كأنه من الواجبات التي تجبر بدم، وأما قبل أن يقع فإننا نلزمه بإتمامه.