تكلم الفقهاء وأطالوا على النية في اليمين، فقالوا: مبنى اليمين على العرف، وهو الشيء المتعارف بين الناس، نذكر لذلك أمثلة: عندنا في المملكة لو حلف شخص ألا يلبس ثوباً، فالثوب عندنا هو الذي له أكمام وله جيب، وأما في اللغة فإن العمامة تسمى ثوباً، والعباءة تسمى ثوباً، وكذا الرداء والإزار، فنقول: أنت لا تعرف إلا الثوب الذي له جيب وأكمام، فلا تلبسه في هذه الليلة، ولك أن تلبس رداءً أو إزاراً أو سراويل، فإن لبست الثوب الذي له أكمام فكفر؛ لأنك حلفت عليه.
وكذلك إذا حلف أن يذبح لفلان شاة، والشاة عند الناس في هذه المملكة النعجة الأنثى من الضأن، وإن كان العرب يسمون الذكر من الضأن شاة والعنز شاة، فالشاة عند العرب الواحدة من الغنم ذكراً كانت أم أنثى، فإذا حلف أن يذبح شاة، نقول له: أنت لا تعرف الشاة إلا أنها النعجة الأنثى من الضأن، هذا هو العرف، فعليك أن تذبحها.
وإذا حلف أن يذبح في هذا الشهر بعيراً، والبعير عند العامة في هذه المملكة هو الجمل، لا يعرفون الجمل إلا أنه البعير، والبعير عند العرب يدخل فيه الناقة، فالناقة بعير لأنها تركب، والجمل بعير، وإذا أرادوا أن يفرقوا بينهما قالوا: ناقة وجمل، وإذا قال رجلٌ عند العرب: عندي بعير، قالوا: ناقة أم جمل؟ فيسمون الناقة بعيراً، ولكن الناس في هذه المملكة لا يعرفون البعير إلا أنه الجمل، فإذا حلف أن يذبح بعيراً لم تبر يمينه إلا إذا ذبح جملاً، هذا معنى قوله:(مبنى اليمين على العرف) .
فإن كان العرف غير موجود في هذه اليمين رجع إلى نية الحالف الذي ليس بظالم، وذلك لأنه قد يحلف على شيء وقد تكون نيته أنه يؤكد الشيء، فمثلاً: أنت طالبته بدين، فحلف أن يعطيك حقك يوم الجمعة، ثم قضاك يوم الأربعاء، هل يحنث؟ لا يحنث؛ لأنه ما أراد إلا أن يعجل حقك لك، فقد عجله قبل موعده فلا يحنث والحالة هذه، فنيته بهذه اليمين نية صادقة وهي التعجيل.
أما إذا كان ظالماً فلا تنفعه هذه النية، والظالم هو الذي يحلف بنية يتأول فيها، فإذا قال: والله ما لك عندي شيء، وتأول وقال: عنيت بشيء مأكولاً، فلا تنفعه نيته؛ لأن كلمة شيء تدخل فيها النقود وتدخل فيها الأكسية وما أشبه ذلك، فهذه نية الظالم.
قوله:(إن احتملها لفظه) أي: فإذا قال مثلاً: والله لا أبيت تحت السماء هذه الليلة، وقال: نيتي بالسماء السقف؛ لأن الله تعالى قال:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}[الحج:١٥] يعني إلى السقف، نيته محتملة، أو قال: والله لا أبيت تحت بناء وأراد بالبناء المنزل المبني، فنيته محتملة، فالحاصل أنه يرجع في نيته إلى العرف ثم إلى ما هيج اليمين، ثم إلى حقيقة الشيء.
وتكلموا هنا أيضاً على الحقيقة وقالوا: إن الحقيقة حقيقة شرعية وحقيقة عرفية، فالحقيقة الشرعية كالصلاة، فالصلاة حقيقة لهذه العبادة التي فيها ركوع وسجود، ولكن أصلها في اللغة الدعاء {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[التوبة:١٠٣] أي: ادعُ لهم، فإذا حلف مثلاً: لا أصلي في هذا المسجد هذا اليوم، ثم دخل ودعا فيه، لا يحنث لأنه أراد بالصلاة الصلاة الشرعية.