[الحدود وأثرها في الحفاظ على المجتمع]
قال رحمه الله تعالى: [كتاب الحدود لا تجب إلا على مكلف ملتزم عالم بالتحريم، وعلى إمام أو نائبه إقامتها.
ويضرب رجل قائمًا بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص وقميصان، ولا يبدي ضارب إبطه.
ويسن تفريقه على الأعضاء، ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل.
وامرأة كرجل، لكن تضرب جالسةً، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، ولا يحفر لمرجوم، ومن مات وعليه حد سقط.
فيرجم زان محصن حتى يموت، وغيره يجلد مائةً ويغرب عامًا، ورقيق خمسين ولا يغرب، ومبعض بحسابه فيهما.
والمحصن من وطئ زوجته بنكاح صحيح في قبلها ولو مرةً.
وشروطه ثلاثة: تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي لآدمي ولو دبرًا، وانتفاء الشبهة، وثبوته بشهادة أربعة رجال عدول في مجلس واحد بزناً واحد مع وصفه أو إقراره أربع مرات مع ذكر حقيقة الوطء بلا رجوع.
والقاذف محصنًا يجلد حر ثمانين، ورقيق نصفها، ومبعض بحسابه.
والمحصن هنا: الحر المسلم العاقل العفيف.
وشرط كون مثله يطأ أو يوطأ لا بلوغه.
ويعزر بنحو: يا كافر يا ملعون يا أعور يا أعرج.
ويجب التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، ومرجعه إلى اجتهاد الإمام] .
الحدود: هي العقوبات على المعاصي، وتطلق الحدود على الأحكام التي حددها الله وبينها، مثل قوله تعالى بعد آيات الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:١٨٧] ، وبعد آيات الطلاق: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:٢٢٩] ، فحدود الله هنا أحكامه التي بينها ونهى عن قربها، أي: فعل شيء مما نهى الله عنه في الصيام أو في الاعتكاف ونحوه، وكذلك الاعتداء في النكاح والطلاق وما أشبه ذلك: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:١] ، فهكذا أصل الحدود، وتلك حدود الله، فيذكر الله تعالى الحدود بعد الأوامر والنواهي، وكذلك بعد الأحكام، كقوله بعد أحكام المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء:١٣] .
ولكن اصطلح الفقهاء على تخصيص الحدود بالعقوبات؛ لأن أصل الحد هو الحاجز بين الشيئين، فتقول مثلاً لجارك: هذا القطع حد بيني وبينك، بين ملكي وملكك فهذا الجدار حد بين أهل فلان وأهل فلان، ثم إن الفقهاء استعملوا الحدود للعقوبات، يقولون: الحد عقوبة على ذنب لتمنع من الوقوع في مثلها.
أي: أن هذا الحد يشرع فيه عقوبة على ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك المجرم، فيحد -أي: يعاقب- حتى يرتدع هو ويرتدع أمثاله، ولا يعودون إلى ذلك الذنب مرة أخرى، هذا هو الأصل في شرعية هذه العقوبات.
ولا شك أن إقامتها تطهير للبلاد، وتعطيلها نشر للفساد، ورد في بعض الأحاديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) بمعنى أنه إذا أقيم الحد كان ذلك زجراً للناس عن هذا الذنب وعن الاعتداء عليه، فيكون بذلك تطهيراً للبلاد عن هذه المعاصي وتطهيراً للبلاد عن هذه المحرمات، وذلك مما يسبب رحمة الله لهم، حيث إنهم تابوا وأقلعوا عن الذنوب وابتعدوا عن هذه المحرمات، ولكن إذا أصروا واستمروا ولم يكن هناك عقوبات فإن المعاصي تكثر، ويكون من آثارها حرمان الله تعالى فضله، وحجزه عنهم رحمته، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
فيعلم بذلك أن الله تعالى ذكر هذه الحدود لتكون زواجر عن الآثام وعن الحرمات، وقد تقدم حد منها، وهو القصاص، وأنه شرع لأجل أن يتوقف المعتدي فلا يتعدى حده، بل يتوقف ولا يقدم، ولذلك قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٧٩] يعني أن سبب شرعيته حتى يقل القتل، حتى إذا هم بقتل مسلم وتذكر أنه سوف يقتل عند ذلك ينزجر ويترك الاعتداء، فكذلك بقية العقوبات، فمثلاً عقوبة الزنا جعل الله تعالى فيها حد الجلد أو الرجم، وذلك لأنها محرمة، ولما يترتب عليها من المفاسد، فإذا هم بأن يزني وتذكر أنه سوف يرجم أو سوف يجلد ويغرب أو يحبس ويطال حبسه ترك هذا المحرم؛ لأنه يترتب عليه فضيحته، وسيترتب عليه أذى له، فينزجر ويتوب عن هذا الفعل.
كذلك أيضاً إذا همّ بأن يسرق وعرف بأنه سوف تقطع يده إذا سرق، ففكر وقال: ما قيمة هذه السرقة مقابل هذا المال الذي سوف آخذه؟ أين يقاس بيدي التي فيها نصف الدية؟ فيتراجع ويترك السرقة، وهكذا إذا هم بأن يشرب الخمر، وعرف بأنه إذا شربها فإنه لابد سيعاقب ويجلد ويشهر بأمره، فيقول: ما نتيجة هذه الشربة التي هي لذة لحظات ثم لا أستفيد منها إلا الخجل والفشل والألم الذي هو هذا الجلد الذي يعود علي بالضرر؟! فيرجع إلى نفسه ويعلم أنه لا حاجة له في هذا الشيء الذي لذته يسيرة وعقوبته شنيعة، هذا هو السبب، فهذه عقوبات دنيوية تزجر كثيراً من الناس.
مع أن الله تعالى قد توعد بعقوبات أخروية أشد وأشد، والعقوبات في الآخرة أشد، وهي حرمانهم من ثواب الله وجنته، ودخولهم النار أو تعرضهم لسخط الله، فيفكر أيضاً إذا كان معه إيمان وعقل أنه لا مقاومة ولا مقاربة بين هذه اللذة العاجلة وبين حرمان ثواب الله ورضاه أو الحصول على غضبه وعذابه في الآخرة، فيعرف أن هذه اللذة وقتها يسير وعاقبتها سيئة.
ولذلك ينزجر عنها العاقل إذا تذكر عقوبتها وتذكر أن مسرته هذه يعقبها مساءة شديدة وإساءة دائمة، حتى يقول بعضهم: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب يعني: لو أنك عشت في سرور مدة كبيرة وأحقاباً طويلة ثم لقيت بعدها مساءة يوم أو مساءة ساعة نسيت ما كنت فيه من تلك المسرات، وذهبت كأنها ليست شيئاً، فكيف إذا كانت المسرة ساعة أو يوماً أو أياما ًقليلة؟! فإن الدنيا كلها قليلة، وحياتك منها قليلة، ولهذا الكفار إذا قيل لهم: كم لبثتم يقولون: لبثنا يوماً أو بعض يوم، مع أنهم لبثوا عشرات السنين، ولكن نسوا ما كانوا فيه من لذة الدنيا وشهوتها، ورد أيضاً في الحديث أنه: (يجاء بأنعم الناس في الدنيا -من أهل الكفر أو من أهل المعاصي- فيغمس في النار غمسة، فيقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط، هل مرت بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم قط.
ويجاء بأبأس الناس في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة، فيقال: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يارب) ، أهل النار إذا غمسوا فيها مرة نسوا ما كانوا في الدنيا من ملذاتهم وشهواتهم وسكرهم ومكرهم ولهوهم وسهوهم وخمرهم وزمرهم وزناهم وفواحشهم التي يتلذذون بها في الدنيا ويرفهون به عن أنفسهم ساعة واحدة أو أقل، إذا غمسوا في العذاب نسوا ذلك كله كأنه لم يكن.
ويقول بعض الشعراء: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار يعني: اللذة التي في الدنيا هي لذة زنا ولواط، ولذة فاحشة وسكر، ولذة غناء، ولذة كبر، ولذة رفاهية، ولذة تمتع في المحرمات وما أشبهها.
وترفيه -كما يقولون- وتسلية وما أشبه ذلك هل تدوم؟ تبقى معه ساعة أو سويعات أو نحو ذلك ثم كأنه لم يتمتع بتلك الملذات، ولكن يبقى عليه الإثم الذي يعاقب عليه في الآخرة، ويبقى عليه التعرض للعذاب، وتبقى عليه التبعات، فكيف -مع ذلك- يقدم وهو يعلم أنه سيستمر العذاب على ذلك، فلا خير في لذة من بعدها النار.
وحيث إن الكثير من الناس يقدمون القريب على البعيد والحاضر على الغائب، وينظرون إلى ما أمام أعينهم، ويغفلون عما وعدوا به، ويتناسون وعيد الله تعالى على هذه المعاصي والمحرمات، فتحملهم تلك المناظر البراقة وتلك الشهوات، والنفس الأمارة بالسوء على أن يندفعوا لفعل هذه المحرمات ويقعوا فيها، ولا يفكرون في العواقب، ثم بعد ذلك ينتبهون، فما ينتبهون إلا وقد وقعوا، ثم ربما يعودون مرة ثانية وثالثة ومراراً.
لما كان كذلك شرع الله تعالى هذه العقوبات الدنيوية لتكون زاجرة لهؤلاء الذين إيمانهم ضعيف، وناهية لهم عن الوقوع في هذه الآثام والمحرمات، فمن كان معه إيمان ويقين زجره إيمانه ولو لم يكن معه أحد يراقبه، ومن ضعف إيمانه اندفع بشهوته إلى أن يفعل الآثام وأنواع الإجرام.