ثم بعد ذلك يدفعون بعد الغروب إلى مزدلفة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم والحجاج معه لما غربت الشمس توجهوا إلى مزدلفة، وكان يقول لهم:(أيها الناس! السكينة السكينة!) ، وكانوا يسرعون فيحصل منهم مضايقة في بعض الأماكن الضيقة، وكان صلى الله عليه وسلم يسير على ناقته، وقد أخذ بزمامها يجد السير، فكان إذا أتى حبلاً من الحبال المرتفعة أرخى لها، وكان -كما يقال- يسير العنق -أي: قدر العنق- فإذا وجد متسعاً نصَّ، أي: أسرع.
وكانت المسافة بين عرفة ومزدلفة تستغرق بسير الأقدام أو بسير الإبل ساعتين، ومع السير المتوسط ساعتين ونصف، فكانوا يسيرون سيراً سريعاً أو سيراً متوسطاً، فلما وصلوا كان قد دخل وقت العشاء؛ إذ وصلوا بعد ساعتين من غروب الشمس أو بعد ساعتين ونصف، فجمعوا بين العشاءين جمع تأخير، ولعل السبب أنهم قد طال وقوفهم، وأحبوا المبيت لطول المسافة ومشقة السير؛ لأنهم على رواحلهم من الساعة الواحدة بعد الظهر حتى الساعة التاسعة من الليل تقريباً، ولا شك أن هذا زمن طويل، فهو ثمان ساعات شقوا على أنفسهم فيها، فلما وصلوا إلى مزدلفة أناخوا رواحلهم وحطوا رحالهم، ثم صلوا العشاءين وأراحوا أنفسهم.
وفي هذه الأزمنة يحصل اختلاف عما كانوا عليه في الزمان القديم، والواقع أن بعض الناس يسيرون سيراً سريعاً من عرفة، ففي مدة أربع أو خمس دقائق يصلون إلى مزدلفة، فكيف يصلون؟ نقول: يصلون جمع تقديم، ولا يلزمهم أن يؤخروا إلى وقت العشاء؛ لأنه ورد أنهم يُصلُّون ساعة أن يَصِلُوا.
وآخرون بضد ذلك، فمن شدة الزحام قد لا يصلون إلا نصف الليل أو بعد مضي ثلث الليل أو في آخر الليل، فيصلون -أيضاً- إذا وصلوا، ويمكن أن بعضهم قد يخشون طلوع الفجر وما وصلوا، فهؤلاء يصلون في الطريق، ومن المشايخ من يقول: يصلون في الطريق إذا خشوا أن يفوت وقت الاختيار.
يعني: إذا مضى نصف الليل وهم ما وصلوا فيصلون في الطريق.
وكيف يصلون والسيارات مزدحمة أمامهم وخلفهم وعن الجانبين؟ المشاهد أنهم قد يقفون في الموقف الواحد نصف ساعة أو ثلث ساعة ثم يتحركون، والمشاهد -أيضاً- أنهم في نصف الساعة يقطعون مسافة عشرة أمتار أو نحوها، فإذا وقفوا في هذه الوقفة نزلوا ذكوراً وإناثاً، والأرض واسعة، فيصلون فيها الصلاة جمعاً أو قصراً الصلاة، حتى لا يؤخروها عن وقتها.
والسائق إذا رجعوا نزل وقاد السيارة واحد غيره إلى أن يصلي مع من بقي، هذا هو الذي أفتى به مشايخنا، فالحاصل أنهم إذا أَمَّلوُا أن يصلوا قبل نصف الليل أو بعد نصف الليل بقليل -وقيل: إلى ثلثي الليل- أخروها إلى أن يصلوا، وإلا صلوها في الطريق حتى لا يفوت وقتها.