الحكمة في شرعية صلاة الجمعة جمع أهل البلد كل أسبوع وتذكيرهم وتأليفهم، ومعلوم أن مساجد الجماعة يجتمع فيها أهل كل حي، فأهل هذا الحي يجتمعون مثلاً في هذا المسجد، وأهل الحي الثاني يجتمعون في مسجدهم كل يوم خمس مرات، فإذا جاء يوم الجمعة اجتمع أهل البلد في مسجد واحد، يحصل تقابلهم، وتعارفهم، وتآلفهم فيما بينهم، وتباحثهم في الأمور ذات الأهمية، فلأجل ذلك لا يجوز تكرار الجمعة في البلد إلا لحاجة، ولا تقام في البلد إلا في مسجد واحد.
في العهد النبوي ما كان هناك إلا مسجد واحد هو المسجد النبوي، يأتي إليه أهل قباء وأهل العوالي وأهل الأماكن التي هي بعيدة عن المدينة، يأتون كلهم ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعضهم يأتي من الصباح، ويرجع إلى أهله فلا يصل إليهم إلا مساءً؛ ذلك لأن القصد جمع أهل البلد في مسجد واحد، ولذلك روي عن ابن عباس أو غيره من الصحابة قالوا:(الجمعة على من آواه المبيت إلى أهله) ، ومعناه: أن الجمعة واجبة على الإنسان الذي إذا صلى الجمعة ثم رجع إلى أهله أدركهم قبل الليل، ولو سار ثلاث أو أربع ساعات، وهذا دليل على أنهم كانوا يسيرون قبل الصلاة نحو ثلاث ساعات أو أربع متوجهين إلى المسجد، وبعد الصلاة يتوجهون إلى أهليهم فيسيرون نحو ثلاث أو أربع ساعات؛ وذلك لأنه ليس هناك إلا مسجد واحد.
ثم ورد أنه صلى الله عليه وسلم لما اجتمع عيد وجمعة في يوم رخص لمن صلى العيد أن لا يرجعوا إلى صلاة الجمعة؛ وذلك للمشقة عليهم؛ لأنهم أتوا إلى صلاة العيد مبكرين، يمكن أنهم ساروا من آخر الليل، فقطعوا مسيرة ساعتين أو نحوها حتى وصلوا إلى مصلى العيد، ثم لابد أنهم يرجعوا إلى أهليهم بعد صلاة العيد، فيسيرون أيضاً مسيرة ساعتين حتى يصلوا إلى أهليهم، فلو كلفوا أن يأتوا إلى صلاة الجمعة لأتوا أيضاً مسيرة ساعتين قبل الزوال، ثم يرجعون بعد صلاة الجمعة أيضاً مسيرة ساعتين، فيتكلفون ثمان ساعات مشياً، ولا شك أن في ذلك مشقة، فأسقطت عنهم صلاة الجمعة إذا أدركوا صلاة العيد، حيث إنهم قد حصلوا على خير، فيصلون في أماكنهم ظهراً، والقريبون يصلون جمعة، ولذلك قال في الحديث:(وإنا لمجمعون) فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمن كان قريباً، فأما البعيدون فأسقطها عنهم لأجل المشقة، فهذا هو السبب.
إذا اجتمع عيد وجمعة سقطت الجمعة عمن بينه وبين المسجد مسيرة ساعتين، فأما من كان دون ذلك فلا تسقط على الصحيح.
يتساهل كثير من الناس فيصلون ظهراً ويتركون صلاة الجمعة يوم العيد، وربما يصلون في بيوتهم، وليس بينهم وبين المسجد إلا عشر دقائق أو ربع ساعة على السيارات التي يسرها الله وسخرها، فنقول: إن هذا تفريط وإهمال، ما شرعت الجمعة إلا لمصلحة، شرعت لأجل الاجتماع، ولأجل التذاكر، ولأجل التعارف والتباحث في الأمور المهمة، وشرعت لأجل الفوائد التي يستمعونها من الخطباء، ولأنهم قد يكونون جهلة بالقراءة وجهلة بالأحكام، فيتعلمون القراءة ويتعلمون الأحكام التي يلقيها الخطباء عليهم فيرجعون بفائدة.