بعد ذلك تكلم المؤلف على الآنية؛ وذلك لأن الماء يحتاج إلى آنية تمسكه، والآنية الأصل فيها: الطهارة، سواء كانت من الزجاج أو من الخشب أو الحجارة أو الحديد أو النحاس أو الصفر أياً كان، عكس الأواني التي تتخذ من الجلود مثلاً، فالجلود تدبغ ثم تجعل أواني، وكذلك يصنعونها من الحجارة، ومن الخشب، وفي هذه الأزمنة أيضاً تتخذ من الربل أو ما أشبه ذلك من المعادن الجديدة، فكل الأواني طاهرة يباح اتخاذها واستعمالها إلا آنية الذهب أو الفضة، وهكذا المضبب بهما لا يباح اتخاذه إناءً ولا استعماله، وقد وردت في هذا الباب أحاديث مشهورة كما في (بلوغ المرام) ، واختُلف في العلة، ففي بعض الروايات:(إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وعلل بعضهم أن فيها كسر قلوب الفقراء.
والصحيح: أنها تجمع الأمرين: ففيها إسراف، وفيها كسر قلوب الفقراء، وفيها نقص لحظ العبد من الآخرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(من شرب بها في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة) وقال: (هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) .
ويعم ذلك كل ما يصاغ من الذهب والفضة، يعم الكأس المصنوع من ذهب أو من فضة، والفنجان المصنوع من ذهب أو فضة، ويعم القدح والإناء وما أشبهها، ويعم القدور والصحون ونحوها، فلا يجوز اتخاذها من ذهب ولا من فضة؛ لهذه العلة.
واُختلف فيما إذا توضأ من إناء ذهب أو إناء فضة، هل يرتفع حدثه؟ الصحيح: أنه يرتفع؛ لأنه استعمل الماء على الأعضاء، ولكنه يعتبر آثماً بالاستعمال، وأما الحدث فإنه يرتفع بوجود رافعه.
والمضبب: هو الملحم، فإذا انصدع -مثلاً- طرفه ثم لحم بفضة يسيرة لحاجة فيجوز، وأما إذا لحم بذهب فلا يجوز، وكذلك إذا طعم أو طلي، والمطعم هو: الذي فيه خروق محشوة بذهب أو فضة، والمطلي به كالذي يطلى بماء الذهب أو نحوه، ولا يجوز استعمال المضبب إلا ما كان فيه ضبة يسيرة لحاجة إذا كانت من فضة.
إذاً: تجوز الضبة بهذه الشروط: أن تكون من فضة، وأن تكون يسيرة، وأن تكون لحاجة.
يقول:(آنية الذهب والفضة محرمة مطلقاً) حتى على النساء، ومعلوم أن النساء يجوز لهن التحلي بلباس الذهب ولباس الفضة، كأسورة وقلائد وخواتيم وأقراط؛ ومع ذلك فإن آنية الذهب والفضة شرباً أو استعمالاً أو اقتناءً لا تصح لا للرجال ولا للنساء، وكذلك الأواني ولو كانت صغيرة كسكين أو ملعقة أو قلم أو نحو ذلك، وساعة الذهب للرجال فقط لا تجوز، وإنما تجوز للنساء؛ لأنها حلية.
وتكلم المصنف على آنية الكفار وثيابهم، وذكر أن الأصل فيها أنها طاهرة؛ وذلك لأن الأصل أنهم يتنزهون ويتطهرون، لكن إذا علم أن هذا الثوب صاحبه يتعاطى نجاسة، كالذي يصنع الخمر، ولابد غالباً أن يراق بعضها على ثيابه، فلا تلبس إلا بعد الغسل، وكذلك الطباخون الذين يطبخون في قدورهم لحم الخنازير، أو يشربون في آنيتهم الخمر، فلا تباح هذه الأواني إلا بعد غسلها، فأما إذا لم تعلم نجاستها فإنها طاهرة.