للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إلزام أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في العادة والهيئة والمعاملة]

أهل الذمة يقيمون فيما بين المسلمين، ولكن يؤخذ عليهم العهد أن يكونوا متميزين عن المسلمين، وقد كتب عليهم عمر رضي الله عنه كتاباً طويلاً لما تعهدوا له ببذل الجزية، وقد أورده ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:٢٩] في سورة التوبة، ورواه البيهقي في سننه الكبرى، وفيه التزامهم على أنفسهم بما يلي: أننا نلتزم على أنفسنا بألا نركب خيول المسلمين، وألا نلبس لباسهم، ولا نتشبه بهم، وبأن نتميز عنهم معاملاتنا وأعمالنا، وبأن نكون على حال لا يكون عليها المسلمون، وكذلك نتميز بشد أوساطنا بالزنار، وجز مقدم رءوسنا، أي: قص الناصية علامة عليهم.

فكانوا يجعلون لهم علامة يتميزون بها على المسلمين، حتى إذا رآهم المسلمون عرفوا أنهم ليسوا مسلمين، فيعاملونهم المعاملة التي أمروا بها، فمن ذلك ألا يبدءون بالسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) وأمرنا إذا سلموا علينا أن نقول: وعليكم، ولا نقول: وعليكم السلام؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم.

فأمرنا بأن نقول: وعليكم.

ولو تحققنا أن النصراني يقول: السلام عليكم -ولا يقول: السام- فإننا نرد عليه فنقول: وعليكم السلام، أو نقول: وعليكم.

ومعنى اضطرارهم إلى أضيق الطريق أنهم إذا دخلوا في الطريق وكان ضيقاً كان لهم حافة الطريق، وللمسلمين وسط الطريق؛ ليشعروا بأنهم أذلة، وهذا من جملة إذلالهم وإهانتهم.

ومما يتميزون به أنهم لا يركبون الخيل، بل يركبون البراذين، والبرذون هو الخيل الذي ليس من أبوين عربيين، ويركبون البغال، والبغل: هو الذي أحد أبويه من الحمر، فيركبون الحمر، وهذا في الوقت الذي كانت الخيول تركب، وركوبها يعتبر زينة؛ لأن الخيل كانت تركب لأجل الزينة، فقد جعلها الله تعالى زينة قال سبحانه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] ، ولكن إذا تعطلت كما في هذه الأزمنة، واستبدلت بمراكب جديدة فإنهم يتميزون في مراكبهم، كما أنهم يتميزون في عملهم.

وقد ذكرنا أنهم كانوا يلزمون أن يقصوا مقدم الناصية حتى يعرف المسلم أن هذا ذمي، وكانوا يتميزون بأن يشدوا على أوساطهم الزنار الذي يعرفون به أنهم ليسوا من المسلمين، فكذلك في ركوب الخيل ونحوها، وهكذا يقال: إذا كانوا من أهل الذمة فلا يركبون السيارات الفارهة، بل يركبون سيارات دنيئة أو رخيصة أو نحو ذلك حتى يعرفوا بذلك، وقد كانوا يمنعون من استعمال السرج، وهو الذي يكون على الخيل ويركب عليه، فكانوا يركبون على الإكاف، وهي: البرذعة التي تبسط على ظهر البرذون أو نحوه لتقي الراكب، فيركبون ببرذعة بدون سرج.

فيتميزون بهذه السمات حتى يكونوا مهانين أذلة، وهذا سبب تميزهم، فلأجل ذلك يقال لهم: لا تشبهوا بالمسلمين، بل تميزوا تميزاً ظاهراً.

ولكن الواقع في هذه الأزمنة أن المسلمين هم الذين يتشبهون بهم، فصاروا يتميزون غالباً بحلق اللحى، وحلق اللحى كان ميزة لهم، وبالأخص للمجوس والفرنجة ونحوهم، أما دعاتهم وعبادهم فإنهم يرون أن اللحى من شعار المسلمين ولا يحلقونها، فجاء هؤلاء المتأخرون فحلقوها، وصار حلقها شعاراً لهم، وقلدهم الكثير من المسلمين، واعتقدوا أن هذا التشبه والتقليد رفعة ورقي وشرف! فهذا من المصائب، يعني: كونهم يقال لهم: لا تشبهوا بالمسلمين، ثم نرى أن المسلمين هم الذين يتشبهون بهم في هذا اللباس أو في هذه الأخلاق! وذكر العلماء أنه لا يجوز أن يحترم هؤلاء الذميون، بل يهانون، فلا يجوز أن يجلسوا في صدور المجلس، بل إذا دخلوا مجلساً فإن لهم أطرافه، ولا يكونون في وسط المجالس أو في صدورها؛ ليشعروا بالإهانة، ولا يجوز القيام لهم، وإذا قدم واحد منهم -ولو كان عالماً كما يسمونه أو مفكراً أو مخترعاً أو له مكانة- لا يجوز القيام له، ولا يجوز أن يبدءوا بالسلام لما ذكر من الأحاديث، ويمنعون من بناية معابدهم في بلاد الإسلام، فلا يبنون الكنائس ولا البيع ولا الصوامع التي يتعبد فيها رهبانهم، ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ونحوها، وإذا انهدمت فلا يجددونها، وإذا كانت موجودة في وقت عقد الذمة فلا نهدمها، ولكن متى انهدمت فيما بعد ذلك فلا يجوز أن تجدد؛ وذلك لأنهم أصبحوا في بلاد قد استولى عليها المسلمون.

ولا يرفعون مساكنهم فوق مساكن المسلمين، بل تكون مساكنهم منخفضة، إما مساوية لمباني المسلمين أو دونها.