وسبب نزولها: أنه لما نزلت آيات القذف وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}[النور:٤-٥] سأل بعض الصحابة عنها وقالوا: إذا رأى أحدنا امرأته تزني، فكيف يفعل؟ إذا ذهب يأتي بأربعة شهداء فإن هذا الزاني سوف يهرب، ولن يتمكن من إمساكه، فكيف يفعل؟ فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ثم وقع أن عويمر العجلاني اتهم امرأته، فسأل أحد أقاربه فقال: أرأيت لو أن أحدنا وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فكره المسائل وعابها، ولكن جاء بعد ذلك عويمر وقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به.
أي: إنه تحقق أن امرأته زنت، ولكن لم يكن عنده شهود، ولا يستطيع أن يحضر شهوداً يجمعهم إذا كان ذلك في وسط ليل أو نحو ذلك.
وحدث -أيضاً- أن رجلاً آخر من الصحابة وهو هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في سورة التوبة، قذف امرأته -أيضاً- برجل يقال له: شريك بن سحماء، دخل بيته فرأى وسمع وتحقق، عند ذلك أصبح وقال: إني وجدت مع امرأتي رجلاً قد فعل بها.
فنزلت الآيات المذكورة في بيان هذا الحكم، وبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ}[النور:٦] يعني: لا يستطيع أن يأتي بشهداء، ليس له شهداء إلا نفسه، يعني: أنه هو الذي رأى وعاين وشاهد، فأمره الله تعالى بهذه الأوامر.
ثم إن عويمراً جاء هو وامرأته، فشهد عليها أربع شهادات، وأتى بالخامسة، ثم إنها شهدت -أيضاً- أربع شهادات أنه كاذب وليس بصادق، وختمت بالغضب، ولما تمت الشهادتان منها ومنه طلقها، وقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت سنة بين المتلاعنين التفرقة بينهما.
وهكذا -أيضاً- جاء هلال وامرأته، ولما جاء ابتدأ فشهد على نفسه أربعة شهادات أنه صادق، ولما كانت الخامسة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل رجل يده على فمه، وقال:(إنها الموجبة) ولكنه أقدم ولعن نفسه إن كان كاذباً عليها، ثم قربت المرأة، وشهدت أربع شهادات أنه كاذب عليها، وبعد ذلك أمر أن يضع إنسان يده على فمها حتى لا تأتي بالخامسة، وقال:(إنها الموجبة) فتلكأت قليلاً، ثم أقدمت وقالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فشهدت ودعت على نفسها بالغضب، وكانت حاملاً فتبرأ من حملها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أنظروها، فإن جاءت به خدلج الساقين فهو لـ هلال، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لـ شريك) ، فجاءت به على الوصف المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) أي: أن الذي منعه من إقامة الحد عليها أنها أتت بهذه الأيمان التي درأت عنها ذلك الحد الذي هو العقوبة عليها.