[نفقة البهائم]
بعد ذلك بنفقة البهائم.
البهائم يراد بها الأنعام التي ملكها الله تعالى للإنسان، ولا شك أنها لا تشتكي ولا تتكلم، وإن كانت قد تثغو أو ترغو من باب الاشتكاء إذا أحست بألم أو ما أشبه ذلك، ولكن هي بهيمة، ملكها الله تعالى الإنسان، فعليه أن يحسن إليها إذا كان قادراً على النفقة عليها، وإلا باعها أو ذبحها إذا كانت مأكولة.
فنفقتها هي علفها، أي: إحضار ما تأكله حتى تشبع، فإن كانت ترعى أرسلها ترعى النبات من المرعى، ويرسل معها من يحفظها كالراعي، أو يرسلها وإذا جاء الليل أو شبعت رجعت إلى أهلها، أي: فقد يتركها بدون راع وهي ترجع بنفسها، ويحصل ذلك في الإبل كثيراً، وكذلك أيضاً البقر، فإنها ترتع ثم تجيء إلى أماكن أهلها، فحينئذ يكتفي بإرسالها لترعى بنفسها، فأما إذا لم يرسلها فإن عليه أن يؤمن لها علفها، وذلك في كل ما يملكه من الإبل والبقر والغنم والخيل والحُمُر.
وكذلك أيضاً الطيور كالدجاج والحمام، إذا كان في ملكه، فكل شيء من الطيور أو من البهائم فإنه إذا أمسكه وجب عليه أن ينفق عليه، فيعلفها ويسقيها حتى لا تموت جوعاً وهي في ملكه.
فإذا لم يجد فإن عليه أن يذبحها ويعطيها من يأكلها أو يأكلها هو، أي أنه إذا عجز عن النفقة فإنه يجبر على البيع، يقال: أنت عجزت عن النفقة على عبدك، أو على فرسك! ويلزمك أن تبيعه، فلا تتركها تلاقي الموت فإنها تحس بالألم كما أنك تحس بالألم، فكر في نفسك إذا جعت ألست تبيع ما تملك؟ فكذلك هذه الشاة أو هذه البقرة تحس بالجوع، فلا تتركها تلاقي الجوع وتكابده، بل بعها لمن هو قادر على الإنفاق عليها، أو أجرها، أجر الجمل لمن يركبه ويعطف عليه، أو أجر الثور لمن ينضح عليه كما كانوا ينضحون عليه قديماً، أعني: يسقون عليه النخل، أو كذلك أجر الشاة لمن يحلبها.
أو اذبحها حتى تريحها إذا كانت مأكولة، وكل لحمها أو تصدق به.
وتكلموا أيضاً بالنسبة إلى المملوك ذكراً وأنثى إذا طلب النكاح، لأنه آدمي يحس بالشهوة، ويتضرر ببقاء هذه الشهوة، كما أن الحر يشتاق إلى النكاح، ويتضرر بهذه الشهوة وحبسها إذا غلبت عليه قوة الشبق والغلمة فنقول: إذا طلب العبد الزواج فعليك أن تزوجه، فإما أن تشتري له أمَة تزوجه، وإما أن تزوجه أمة لغيرك، ولو كان أولادها يكونون لصاحبها، وإما أن تزوجه حرة، فيكون أولادها أحراراً، ولا تتركه يتألم من هذه الشهوة.
وإما أن تعتقه، وإما أن تبيعه، فإن بقاءه وهو عزب يتألم من الشهوة ضرر عليه.
كذلك الأمة إذا طلبت النكاح عليه أن يعفها، إما أن يطأها، وإما أن يزوجها بعبد، أو يزوجها بحر، أو يزوجها بمملوك له أو بمملوك لغيره، أو يعتقها أو يبيعها، فكذلك هذه البهائم يجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن كانت مأكولة.
تكلموا أيضاً على الحمل عليها، فقد كانت الإبل والحمر هي وسائل الحمل، ينقلون عليها الأحمال قبل وجود السيارات، فيقولون: إذا حملها حملاً فلا يجوز أن يحملها فوق طاقتها، فإن ذلك مما يضرها، إذا كانت حمولتها مائة كيلو جرام فلا يحمل عليها مائتي كيلو جرام؛ لأنه لا شك أن ذلك يضرها.
وكذلك أيضاً ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب الدابة في وجهها؛ فإن ذلك يؤذيها، فلا يجوز ضربها في الوجه، وكذلك أيضاً: (مر على حمار وقد كُوي بين عينيه فقال: لعن الله من فعل هذا) ، وأما وسمها في خدها أو في عنقها، أو وسم الغنم في أذنها، أو وسم الإبل في وركها أو فخذها فلا بأس بذلك للعلامة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسم إبل الصدقة كعلامة لها، ويجوز في غيره لغرض صحيح يعني: في غير الوجه.
كذلك كانوا مرة في سفر، وامرأة راكبة على ناقة، فكأن الناقة استعصت عليها فلعنتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروها أن تضع عنها رحلها وتتركها؛ فإنها ناقة ملعونة) فتركتها، فكانت ناقة تمشي من أحسن الإبل، لم يتعرضوا لها، فإن صاحبتها لما لعنتها عوقبت بحرمانها منها.
إذا كانت بهيمة الأنعام لها أولاد فلا يجوز أن يحلبوا منها ما يضر بأولادها، فإن أولادها أقدم، ولد البقرة يستحق أن يرتضع حتى يشبع، وما زاد فلهم أن يحلبوه، وكذلك ولد النعجة أو ولد العنز أحق بلبن أمه، وإنما يحلبون ما يزيد، وهكذا ولد الناقة، فلا يجوز أن يأخذوا من لبنها ما يضر بأولادها.