تقدم في التطوع أن آكد صلاة التطوع صلاة الخسوف، ثم بعدها الاستسقاء، واستدلوا بأنها تشرع لها الجماعة؛ ولأن الكسوف ينادى لها، والكسوف هو كسوف أحد النيرين: الشمس والقمر، الذي هو ظهور الانمحاء عليه في نهار أو في ليل، وثبت أنه وقع كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أظلمت كثيراً، ولما رأى ذلك فزع إلى الصلاة، وأمر بأن ينادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصلى بهم صلاة طويلة وغاير فيها عن بقية الصلاة وبقية التطوعات، حيث كرر فيها الركوع والقيام، فالمشهور أنه صلى في كل ركعة ركوعين، يعني: قام قياماً طويلاً، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً قرأ فيه أيضاً الفاتحة وسورة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رفعاً معتاداً، ثم سجد سجدتين، ثم قام للركعة الثانية وفعل فيها كما فعل في الأولى.
وقد روي أيضاً في صحيح مسلم:(أنه ركع في كل ركعة ثلاثة ركوعات) ، وفي حديث آخر:(أنه ركع في كل ركعة أربعة ركوعات) ، يعني: أنه قرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، أربعة ركوعات في الركعة الواحدة، وروي أيضاً في سنن أبي داود وغيره:(أنه ركع خمس ركوعات) ، وقد أنكر كثير من المحققين هذه الزيادات، وقالوا: إنه لم يقع الكسوف إلا مرة يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام: معلوم أنه لم يمت مرتين، وأنه لم يكن هناك إبراهيمان.
ولكن إذا نظرنا إلى الأحاديث التي فيها تكرار الركوع ثلاثاً أو أربعاً أو خمسا ًوجدناها بأسانيد صحيحة تقبل في الأحكام الأخرى، فكيف نردها؟ لا نردها بهذا الاحتمال، فيترجح أن صلاة الكسوف تكررت، إما كسوف شمس تكرر وإما كسوف قمر، لأن من العادة أنه يقع كسوف الشمس في كل سنة أو في كل سنتين، فلا بد أن يتكرر في العهد النبوي، وكذلك كسوف القمر قد يتكرر في السنة مرتين أو أكثر، فلابد أنه وقع في القصة أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم انتهى وقد تجلت الشمس، وذلك دليل على أنه أطال فيها.
في بعض الروايات قرأ في الركوع الأول قدر سورة البقرة، وأن ركوعه قريب من قيامه، ثم الركوع الثاني يمكن أنه قدر سورة آل عمران، والركوع أقل من الركوع الثاني، فلابد أنها استغرقت صلاته نحو ثلاث ساعات أو أكثر، مما يدل على أنه أطال فيها؛ لأنه انصرف وقد تجلت الشمس، ثم اختلف هل خطبهم كخطبة الجمعة أم علمهم تعليماً، فالمشهور أنه علمهم مجرد تعليم، فأخبرهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، وأنها آية يخوف الله بها عباده ولو كانت معلومة السبب.
وكذلك أيضاً حثهم على الفزع إلى الصلاة:(إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) ، وكذلك ذكرهم بما رأى في صلاته تلك، فذكر أنه تمثلت له الجنة بينه وبين الحائط فتقدم إليها، يقول:(تناولت منها قطفاً لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، يقول: وعرضت علي النار وتقهقر لما رآها، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر قصبه) ؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم (ورأى فيها سارق الحاج صاحب المحجن الذي يعلق المتاع في محجنه ويجره، فإذا فطنوا له قال: إنما تعلق بالمحجن، وإذا لم يفطنوا له أخذه، ورأى فيها المرأة التي تعذب في هرة حبستها) ، يعني: ذكرهم بنحو هذا، وكأنه يحثهم على أداء الأمانات وعلى عدم الظلم والعدوان، وأن ذلك من أسباب تغير الأحوال.
يسن تطويل قراءة السورة وتطويل التسبيح، وكون الأول أطول من الثاني، فيكون كل ركوع أطول من الذي بعده، وكل قيام أطول من الذي بعده.